يعيش المصابون بالحروق، الناجمة عن الحوادث المنزلية والأعمال اليومية، معاناة مضاعفة بين ارتفاع كلفة الاستشفاء وقلة المراكز الطبية المتخصّصة. وعلى الرغم من تراجع نسبة حرائق الغابات لهذا العام بالمقارنة مع السنوات الماضية، إلا أنّ نسبة الحوادث الناجمة عن حرائق منزلية لم تتراجع، وفي هذا السياق يبرز دور معالجي الحروق، في صيدا تحديداً، مع استمرار إقفال المستشفى التركي المتخصص بعلاج الحروق. لا يتوقف محمد حماد، أبو صالح، عن تجهيز القطن والشاش والضمادات واللاصقات، وهو يتحدّث إلينا في عيادته الصغيرة لمداواة الحروق في صيدا القديمة. ينتظره شاب لمرافقته إلى مخيم عين الحلوة حيث يقيم عمّه المصاب بحروق تسبّبت له بمضاعفات. منذ 16 عاماً، يتنقل بين فوج الإطفاء في الدفاع المدني، والكشاف المسلم، وعيادته، ومنازل المرضى في المناطق. يقول إنه ابتدع عقاراً طبيعياً يداوي الحروق وتآكل الجلد واللحم. يختصر تقنيته التي يستخدمها بـ"الطب العربي والطب النبوي". الأول قوامه العسل وزيت الزيتون، والثاني قوامه الأذكار والأدعية. وما بينهما، يعتمد طريقة في العلاج ترتكز على تغطية المساحة المحترقة من الجلد بالشاش والقطن وتنظيفه يومياً. يؤمن كثر بقدرة حماد (60 عاماً) على المداواة. راكم خلال السنوات الماضية، رصيداً من حالات الشفاء شجّعت مرضى آخرين من خارج صيدا للاستعانة به.
يربط حماد قرار امتهانه مداواة الحروق بعدوان تموز عام 2006. حينها، استعاد معاناة الصيداويين خلال الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. "لم تكن هناك أدوية وأطباء، ومن أصيب بحروق بسبب القصف لم يجد من يداويه. وخلال عملي كمتطوّع في الدفاع المدني، شاهدت سيّدة تعرّضت للحريق. لم أستطع مساعدتها". خشي أبو صالح من تكرار المشهد نفسه بعد 22 عاماً. برغم توافر الأدوية والأطباء، لكنّ اختصاص معالجة الحروق ظلّ محدوداً بكلفة عالية. "استعدت ما تعلمته في دورات التدريب على الإسعافات الأولية. طوّرت مهاراتي بالقراءة والبحث، حتى توصلت إلى إنتاج عقار خاص".

الخشية من المضاعفات
يحتفظ أبو صالح بألبوم صور لأصعب الحالات التي عالجها، توثّق مراحل شفائها وانحسار البقعة المحترقة. منها "طفلة تعرّضت رجلها للاحتراق وقصدت أحد المستشفيات حيث التقطت جرثومة تسبّبت بمضاعفات كادت أن تبتر القدم. طوال سبعة أشهر، واظبت على علاجها حتى اندملت جراحها". ويستعرض حالة أخرى لمريضة سورية، "تعرّضت رجلاها للاحتراق بالمازوت الأحمر ولم تفلح محاولات إسعافها. نقلتها عائلتها إلى لبنان طمعاً بعلاج أفضل، لكنّ الغرغرينا بدأت تأكل الرجلين. أحد الأصدقاء أخبرني عن حالتها. بادرت إلى عرض المساعدة". يجزم بأنه استطاع معالجة الحالات التي وفدت إليه، لكنه في الأساس يرفض استقبال حالات الحروق الممتدة على مساحات واسعة في الجسد. "لأن المريض قابل للإصابة بمضاعفات في القلب والأعضاء الأخرى، لذلك أعمل على نقله إلى المستشفى. وبعد تجاوز مرحلة الخطر، أستكمل علاجه".
فوق مكتبه، علّق حماد لافتة كُتب عليها "هذا العمل غير مُموّل من أي جهة محلية أو رسمية أو جمعية". اضطر إلى شهر هذا الإعلان بوجه كلّ من يدخل إليه، عسى أن يصدّق الناس بأن "عملي صدقة جارية عن أرواح المسلمين. لا أتقاضى أجراً من المرضى باستثناء اصطحابي إليهم، لأني لا أملك سوى دراجة هوائية".
70 % من المرضى هم من الأطفال الذين يُصابون بالحروق بالمياه الساخنة


قبالة عيادته التي يسعى لتوسعتها، يقع مركز فوج الإطفاء في صيدا القديمة الذي افتُتح عام 2012. "أنشأنا فرعاً لفوج الإطفاء في صيدا هنا، لأن الآليات لا تصل إلى الأزقة الضيقة". على الرفوف، وُضعت حاجات رجال الإطفاء ولوازمهم. لكنّ الزاوية الرئيسية هي لركن التوعية من حوادث الحريق. "للأسف، فإن 70% من المرضى هم من الأطفال الذين يصابون بالحروق بالمياه الساخنة في المراحيض أو الطعام الساخن في المطبخ أو المدافئ".

وراثة المهنة
امتهن كثر مداواة الحروق طبيعياً في صيدا، أقدمهم رياض البزري الذي طوّر عمله من مساعد طبيب إلى معالج يتنقّل بين منازل المرضى منذ الستينيات وحتى الثمانينيات. بعد وفاته، استكملت شقيقته رشيقة (89 عاماً) المهمة. "خلال العزاء، كان المصابون يأتون إلى منزلنا يطلبون العلاج من الحروق. أنا من بين إخوتي تشجّعت لكي أعالجهم". نقلت عدة العلاج إلى منزلها بعدما كانت قد حفظت الطريقة. "بدّا قوة قلب" تختصر البزري الأمر. بعد شجاعة المعالج، يأتي تنظيف الحروق "لأنه السبيل الوحيد للشفاء". قبل سنتين فقط، توقفت البزري عن العمل بعد إصابتها بعارض صحي، ولم تورث المهنة لأولادها.