أكثر الأسئلة إلحاحاً بعد أن يُشكِّل بنيامين نتنياهو حكومته، بعدما كُلّف بذلك أمس، هو حول مصير اتفاق الحدود البحرية وإمكانية عرقلة تنفيذه ومنع لبنان من استخراج ثرواته الطبيعية، بعدما كان نتنياهو وصف الاتفاق، أثناء الحملة الانتخابية، بأنه «استسلام لحزب الله» وتعهد بإلغائه.كيف يمكن إلغاء الاتفاق من الناحية القانونية، وما هي العوامل التي تحول دون قرار كهذا، وأي نتائج متوقعة في هذا الاتجاه؟
بداية، أفرزت الانتخابات موازين قوى في الكنيست لمصلحة نتنياهو بعد نيل معسكره 64 مقعداً من أصل 120، ما يفتح الطريق أمامه لتشكيل حكومة يمينية تتمتع بقاعدة برلمانية. بالتالي لا يُتوقع تكرار السيناريوهات التي حالت في السنوات السابقة دون تشكيل حكومة وأدخلت إسرائيل في دوامة الانتخابات المفتوحة.
من الناحية القانونية، الجهة التي تشرعن أي قانون هي نفسها التي تملك صلاحية إلغائه. وبما أن الحكومة أقرت الاتفاق فهي من يملك صلاحية إلغائه من دون الحاجة إلى موافقة أي مؤسسة أخرى. مع ذلك، لا يعني امتلاك الحكومة الصلاحية أنها تملك الجرأة، لوجود عوامل عدة تحول دون المضي في هذا الاتجاه.
عموماً، يمكن التقدير أن ما يكبح العدو عن خيار إلغاء الاتفاق هو نفسه ما فرض على القيادتين السياسية والأمنية الموافقة عليه، بل والإصرار عليه إلى حدّ دفع المؤسستين القضائية والقانونية إلى تجاوز الإشكاليات القانونية حوله. ولم تخفِ قيادة العدو، السياسية والعسكرية، أن العامل الذي دفع إلى تسريع الاتفاق هو تجنب البديل عنه المتمثل بحرب مع حزب الله. فهل يُقدم نتنياهو على خطوة يعلم مسبقاً أنها ستؤدي إلى مواجهة عسكرية قد تتطور إلى حرب كبرى مع حزب الله وربما تتوسّع إقليمياً؟ ومع أخذ الكلفة والجدوى في الاعتبار، هل يُقدم على خطوة كهذه فيما يواجه تحديات متصاعدة في الضفة الغربية وأولويات أخرى تتصل بمواجهة التهديد الإيراني نووياً وأيضاً على مستوى تطور القدرات العسكرية والصاروخية الإيرانية بشكل غير مسبوق؟
إلى ذلك، هل من المنطقي أن يُبادر نتنياهو إلى خطوة عدائية من جانب واحد بشكل فاضح؟ صحيح أن إسرائيل لا تكترث كثيراً لهذا العامل، لكنها عندما تُقدِّر أنها ستواجه ردوداً غير مسبوقة في جبهتها الداخلية، يصبح لموقف الرأي العام الإسرائيلي تأثيره الكبير وعلى القيادة أن تبرر له هذه الأثمان، لأن الحكومة ستواجه أسئلة من نوع: ألم يكن بالإمكان تجنب هذه الحرب إذا كانت إسرائيل تعرف نتيجتها، وهل نتائج هذه تستحق هذه الخسائر؟ وماذا لو أدت الحرب إلى توقف صادرات الغاز أو تدمير المنشآت الغازية، وهو ما سيحصل بالتأكيد في حال تطورت المواجهة العسكرية؟
كل هذه السيناريوهات كانت حاضرة لدى الجهات الأمنية التي حرصت على التوصل إلى اتفاق لتجنبها بعدما أيقنت تصميم حزب الله على الذهاب إلى النهاية حتى لو أدى الأمر إلى حرب، لوجود قناعة راسخة لدى قيادته بأن البديل عن الحرب، وهو استمرار الحصار، سيكون أشد خطورة من الحرب نفسها.
ما يكبح العدو عن خيار إلغاء الاتفاق هو نفسه ما دفع القيادتين السياسية والأمنية إلى الإصرار عليه


وليس أقل أهمية، بالنسبة إلى إسرائيل، أن المقاومة في لبنان ستواجه عدواناً إسرائيلياً في ظل التفاف شعبي غير مسبوق (لا ينتقص من ذلك وجود أصوات معارضة منضوية في الفلك الأميركي ولا يُكترث لموقفها في مثل هذه القضايا)، لأنها ستخوض حرباً من أجل مستقبل لبنان الاقتصادي والمالي، وهو ما يعارض المخطط الأميركي الذي يستهدف تصوير المقاومة على أنها عبء على لبنان، وليس «درع لبنان» في مواجهة الأطماع الإسرائيلية.
أيضاً، مما يُسهم في جعل مثل هذا القرار أكثر إشكالية، بالنسبة لنتنياهو وحكومته، أنه يتعارض مع توصيات الجيش والأجهزة الأمنية. فرغم أن الحكومة يمكنها، من الناحية القانونية، اتخاذ قرار عدواني بخلاف هذه التوصيات، إلا أنه عندما تكون الكلفة كبيرة جداً والجدوى مشكوكاً بها، فإن قراراً كهذا يحتاج إلى غطاء من الجيش لأسباب داخلية. ففي العادة، لمواقف الأجهزة الأمنية، حتى لو تباينت، تأثير كبير في بلورة موقف الجمهور الإسرائيلي، فكيف الحال عندما يكون هناك إجماع بينها على ضرورة الاتفاق؟
من جهة أخرى، هناك «ضمانة» الإدارة الأميركية للاتفاق. وهذه بالتأكيد لا تعني تلقائياً ضمانة لاستمراره لأن تاريخ الضمانات الأميركية غير مشرّف. لكن العامل الأساس وراء هذه الضمانة هو أيضاً خشية واشنطن من نشوب حرب لا تريدها في المنطقة.
عليه، من الواضح أن كل العوامل التي تُطرح على أنها قيود كابحة لحكومة العدو عن اتخاذ قرار بإلغاء الاتفاق، تستند بالدرجة الأولى إلى موقف المقاومة وجديتها وتصميمها، وإدراك الجهات الاستخبارية والعسكرية بأن البديل عن الاتفاق هو الحرب مع حزب الله. والأمر نفسه ينسحب على موقف الإدارة الأميركية وخشيتها من تداعيات المواجهة العسكرية على أمن الطاقة في شرق البحر المتوسط. أما في ما يتعلق بالظرف الدولي المتمثل بالحاجة المتصاعدة إلى الغاز بفعل الأزمة الأوكرانية، فتكفي الإشارة إلى إعلان وزارة الطاقة الإسرائيلية (12/11/2022/ i24news)، على هامش مؤتمر المناخ في شرم الشيخ، بأن «إسرائيل ستحتاج إلى ثلاث أو أربع سنوات لتوفير كميات كبيرة تتجاوز احتياجاتها المحلية للتصدير»، وأنه «ليست هناك قدرة فورية على توريد الغاز على المدى القصير»، ما يعني أن الدافع الرئيسي للتوصل إلى اتفاق لم يكن الغاز الذي ستوفره إسرائيل لأوروبا كبديل عن روسيا (وبالمناسبة هي نسبة متواضعة جداً نسبة إلى حاجات أوروبا).
انطلاقاً مما تقدم تصبح المعادلة التي أرساها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في 29/10/2022 (لن يستطيع أحد أن يستخرج نفطاً وغازاً، وأن يستمر في استخراج النفط والغاز وبيع النفط والغاز إذا مُنع لبنان من استخراج نفطه وغازه. وهذا هو عنوان المرحلة المقبلة) هي الضامنة لاستخراج لبنان ثرواته والاستفادة منها. أما أي تأثير آخر مفترض، فما كان ليتحقق لولا حضور عامل المقاومة والمخاوف من تداعيات الخيار الذي ستنتهجه رداً على أي محاولة منع لبنان من استخراج ثرواته الطبيعية.