كيف يمكن نزع نظرية المؤامرة من أذهان الطرابلسيين خلال جردة تاريخ مدينتهم، التي كانت فيحاء، وصارت مصنعاً للمهاجرين غير الشرعيين الذين يفضلون البحر على العيش فيها؟ الأدلة على وجود المؤامرة دامغة برأيهم، لا تبدأ بالانتداب الفرنسي ولا تنتهي بالحروب المحلية الموازية للحرب الأهلية؛ وما بينهما صعود لدور العاصمة الأولى بيروت على حساب العاصمة الثانية، طرابلس. يشعر كثر بسوء تفاهم جغرافي وتاريخي بين طرابلس ولبنان. نفور تكرّس بعد "تشليح" المدينة وظائفها الاقتصادية ولا سيّما الدور الرئيسي للمرفأ والتصدير نحو البرّ. وهنا، يهزأ كثر بلقب "العاصمة الثانية" الذي مُنح للترضية. فالتهميش تكرّس مع الجمهورية اللبنانية بتقسيمها الطائفي، وبقي لها نقابتان مستقلتان للأطباء والمحامين، أنشئتا في الأساس قبل نقابتَيْ بيروت.

طرابلس من الداخل
يجمع كتاب "طرابلس من الداخل"، للأستاذين الجامعيين مهى كيال وعاطف عطية، وثائق عدة تظهر "منهجية تحجيم طرابلس وإهمالها بسبب موقفها السلبي والعدائي من الانتداب الفرنسي". رفضت طرابلس الانضمام إلى دولة لبنان الكبير، بقيادة مفتي طرابلس آنذاك عبد الحميد كرامي. تظاهرت واعتصمت وأضربت للمطالبة بالانضمام إلى سوريا، لكن الانتداب ضمّها بالقوة، ما أدى إلى "استئصالها من جغرافيتها الطبيعية مع بلاد الشام عام 1920". بحسب مواقف كرامي والقيادات الرافضة للانتداب والانضمام إلى لبنان، فإن معظم الطرابلسيين "وجدوا في سوريا، المدى العربي الذي يشبههم، سواء بأكثريتهم السنية أو بتوجهاتهم العروبية". ومن الأدلة على التحجيم "توسعة مرفأ بيروت وفرض رسوم وضرائب كبيرة على التجار في مرفأ طرابلس في مقابل رسوم أقلّ في بيروت".
النكبة الثانية التي أصابت طرابلس بعد الانفصال الجغرافي عن الشام، كان الانفصال الاقتصادي عنها عام 1950. حينها، أُغلقت الحدود وتوقفت حركة انتقال المنتجات عبرها. وعلى نحو تدريجي، تعطّلت معامل عدة منها معامل الصابون التي كانت تقوم على استيراد زيت الزيتون من سوريا ثم تصدّر الصابون إلى أسواقها ومنها إلى تركيا وأوروبا. ومن نتائجه، انقطاع بذر الزيتون الذي يُصنع منه الجفت، ما أدّى إلى إقفال المصانع الصغيرة التي تصنع الصابون الرخيص منه. عادت التظاهرات إلى طرابلس، رافضة القطيعة مع سوريا. باب التبانة، الذي سُمّي لاحقاً بشارع سوريا ومنطقة البحصاص الصناعية، أعلنا الإضراب. في المقابل، تأثرت قطاعات طرابلسية عدة بعد منافسة بيروت لها، مثل مطاحن القمح.
وضع دبوسي خطة لتوسعة مرفأ طرابلس لمواكبة حجم الملاحة الدولية في البحر المتوسط


معرض طرابلس الدولي
بعد وصول رشيد كرامي إلى النيابة والوزارة ورئاسة الحكومة منذ الخمسينيات، حاول تبديد تهميش مدينته. أبرز ما حقّقه، افتتاح معرض طرابلس الدولي الذي تزامن انتهاء بنائه مع بداية الحرب الأهلية. لكن نهاية تلك الحرب، لم تكن نهاية الإهمال. يوقن كثر بأن الرئيس رفيق الحريري تعمّد تهميش طرابلس أيضاً. "لم يسع إلى تشغيل المعرض، بل أنشأ معارض أخرى بعد ردم الواجهة البحرية لبيروت".
الفيحاء تأثّرت أيضاً وبشكل مباشر من سياسات الحريري التي دمّرت الصناعة المحلية خصوصاً. في سوق الأحذية في الأسواق القديمة، لا يزال خالد عيد صامداً في محله الذي ورثه عن والده. ابن الخمسين عاماً، ورث مصنع أحذية وجلديات في الثمانينيات. لكنه انحصر لاحقاً ليقتصر على تصليح الأحذية المستعملة فقط. عيد، وجاره أبو نبيل، جزء من قطاع ضخم في طرابلس التي كانت تضم 360 معمل أحذية حتى التسعينيات ولم يبق منها الآن شيء. يحمّل أبو نبيل المسؤولية إلى سياسات الحريري. "أسّست معملي عام 1971 وأقفلته عام 1994. صمد في أحلك الظروف خلال الحرب، لكنه لم يصمد أمام قرارات تحرير الأسواق أمام الاستيراد ورفع الضرائب على المواد الأولية المستوردة". يستذكر كيف زاره وفد من أصحاب المصانع في قريطم، حاملين مفاتيح مؤسساتهم. "قدّمناها له كعربون شكر على سياساته. لكنه لم يتأثر". تلك السياسات ضربت أيضاً الصناعات الأخرى من الألبسة والأقمشة إلى السكر والزجاج وصناعة القوارب.

استعادة الرخاء؟
وإذا كان هناك من يحمّل الحريري مسؤولية تهميش المدينة، إلا أن كثراً يوجهون الاتهامات إلى أثرياء طرابلس "الذين لا ينظرون إلى فقرائها"، والذين شغلوا أيضاً مناصب قيادية في الدولة.
أحد من يطاولهم الهجوم، توفيق دبوسي رئيس غرفة التجارة والصناعة في طرابلس. "لا أستطيع أن أقول لأغنياء طرابلس وزّعوا أموالكم على الناس. الأموال ستنفد، والناس سوف يعتادون على المذلة والتسول والارتهان". في المقابل، لا يستطيع أن يقول لهم شيّدوا مصانع لتوفير فرص عمل للفقراء. "هل الوقت مناسب أو الظروف قابلة للاستثمار؟ بالطبع لا، حتى يحلّ الاستقرار السياسي. الأزمة انعكست أيضاً على القطاع الخاص. 9% فقط من أصحاب المؤسسات المنتسبين إلى الغرفة جدّدوا اشتراكاتهم عام 2020. أصحاب المصالح أفلسوا أيضاً".
لكنّ صاحب المجموعة التجارية الضخمة، استثمر خبرته وعلاقاته بوضع مخطط توجيهي اسمه "طرابلس الكبرى". المخطط نال موافقة وزارة الأشغال العامة والنقل وحظي بدعم عدد من السفراء العرب والأجانب الذين زاروا المدينة وأبدوا رغبة بالاستثمار فيها.
يرفض دبوسي أن يبقى الطرابلسي واقفاً على الأطلال إلى الأبد. يثق بإمكانية استعادة القطاعات الاقتصادية التي ازدهرت قبل عقود من معامل الصابون والسكر والأقمشة والخشب ومخازن تبريد الحمضيات إلى التصدير والاستيراد عبر مرفأ طرابلس والحدود السورية. يسعى في مخططه إلى تطوير مرفأ طرابلس وتشغيل مطار القليعات واستحداث خدمات تشغيلية على الواجهة البحرية ما بينهما، باستغلال المساحات الواسعة. "توصلت إلى أن قوة لبنان من طرابلس" يجزم دبوسي. مرافئ لبنان وسوريا لا تخدم حالياً سوى مليونَيْ حاوية. وبما أن مرفأ بيروت غير قابل للتوسّع جغرافياً، وضع دبوسي خطة لتوسعة مرفأ طرابلس لمواكبة حجم الملاحة الدولية في البحر المتوسط البالغة 60 مليون حاوية بحلول عام 2030. افتراضياً، صمّم المشروع المنتظر. "ردمنا 22 مليون متر مربع شمال المرفأ الحالي في الواجهة البحرية الممتدة حتى مطار القليعات، ومعظمها مملوك من الدولة. فوقها، شيّدنا منصة تخدم حركة الملاحة في شرق البحر المتوسط". ينتظر المشروع دعماً من الدولة. في المرفأ، هناك رصيف واحد للحاويات فقط "ننتظر من الدولة استصدار قرارات ومراسيم للسماح بتطوير مرافق المرفأ لتشجيع الشركات الاستثمارية". وبعد استعراضه لجولاته الناجحة لجذب الشركات من الإمارات إلى الصين، أقرّ دبوسي بأن "الحلم مرهون بتوافق سياسي وغطاء دولي".