تخطّت «لعنة» الأزمة الاقتصادية البرّ، ووصلت إلى البحر، لتعبث في أرزاق الصيادين في مدينة الميناء شمالاً، وفي حيواتهم. من جهة، تثقل كاهلهم بتكاليف عدّة الصّيد المرتفعة. ومن جهة ثانية، تهدّد «فلوكتهم» المتوقّفة عن الصيانة بالغرق، خاصة على أعتاب فصل الشتاء وجنون العواصف. تغزو مراكب الصيد شاطئ الميناء في طرابلس، حاملة أعلام لبنان، من دون أثر لسائقيها. القلّة من الصيادين المتواجدين عند العاشرة صباحاً تعزو هدوء «المينا» إلى سوء الأحوال الجويّة فجراً، وتفضيل الصيادين عدم المغامرة في تحدٍّ مع الأمواج لأنّ الرياح لم تجرِ لصالحهم. يصبح هذا أمراً واقعاً عندما يحلّ الشتاء وتشتدّ العواصف، حيث يلازم الكثير من الصيادين منازلهم، فيما تفضّل قلّة المغامرة في بعض الأيام.

مصلحة «ميّتة لا تُورَّث»
ينشغل أبو ديب وأبو زهير في تنظيف الشِباك مما علق فيها. عادا للتوّ من رحلتهما البحرية التي بدأت عند الرابعة فجراً. خمسون عاماً قضاها أبو ديب (78 عاماً) صياداً من دون أن يتأثر بمقولة شيوخ الميناء إن «الأب الصالح يورث ابنه قارباً وشباكاً ويعلّمه الصيد». يحمد ربّه أنه لم يصطحب أبناءه إلى البحر ويعلّمهم هذه «المصلحة الميتة». فثمن عدّة الصيد من شباك وحبال ورصاص وفلّين «صار يتعدّى في بعض الأحيان ثمن السمك». يشرح: «كنا نشتري كيلو الرصاص بخمسة آلاف ليرة وصار ثمنه اليوم 120 ألفاً، أما الشبكة الواحدة فصارت بـ300 ألف، علماً أن الصّياد يحتاج إلى لفة من ستة شباك بالحد الأدنى، ويضطّر أن يغيّرها عندما تهترئ أو تتمزّق». يتدخّل أبو زهير: «أحياناً تعلق الشباك في الصخر أو يبتلعها البحر فنعود من دونها».
خلافاً لما يظنّه البعض أن السمك هو طعام الأغنياء، لا يشكو الصيادون صعوبة في تصريف السمك، بقدر ما تؤرقهم قلة السمك في البحر والسعي الطويل للحصول على «الغنيمة» مقابل ارتفاع التكاليف التي تتطلبها عملية الصيد. بحسب أبو زهير: «إنه موسم البلميد، وهو من أرخص أنواع السمك، يعني أرخص من اللحمة والدجاج». يتحدّث عن أنواع سمك عديدة يصطادونها مثل «الغبّص، اللّقز، السّلطعون، البطريز، القريدس، العرموت، الأسود، الأحمر، الجربيدي»... وجميعها «تجد سوقاً واسعة».
لا يمكنك أن تسأل صياداً عن معدّل تقريبي لربحه اليومي، «فالرزق على الله»، إجابة جاهزة. «قد أجني 50 ألفاً أو 50 مليوناً في اليوم. وربما أعود مكسوراً على سعر المازوت الذي صرفته»، يقول أحمد سبلاني (32 عاماً). وطبعاً، تتوقف كلفة المازوت عند حدود الإبحار، يمكن القول إنها تتراوح بين سعر نصف صفيحة وصفيحة كاملة. يشكو أحمد، إلى جانب ارتفاع سعر المازوت، أعطال الميكانيك والمحرّكات وهشاشة الخشب. يجد «المصالح كلها واقفة، على البرّ والبحر معاً»، ويتعجّب من كونه لا يصطاد سمكاً بقيمة تكاليفه ومصاريفه، ومع ذلك «عايشين، كيف؟ الله أعلم».
كثر من الصيادين ينزلون إلى البحر على متن قوارب غير صالحة للإبحار


قوارب موت أم صيد؟
يجمع الصيادون على أن سحب «الفلوكة» إلى البرّ، بغرض الصيانة والترميم وتغيير الخشب المهترئ، لن ينتهي بكلفة دون الألف دولار. وهذه «خربان بيوت» بالنسبة إلى مجتمع الصيادين الفقير. وفي حين كان يحصل ذلك بشكل دوري، واحترازي قبل الشتاء، لم يعد هذا ممكناً اليوم. يقول النجّار المنهمك بصيانة «الفلوكة» إن «الترميم ضروريّ كل سنة أو سنة ونصف السنة للتأكد من أن الخشب بحالة جيدة ما يسمح للمركب بالنزول الآمن إلى البحر». يشير بيده إلى «الفلوكة» التي يصلحها، ويقول: «هذه ستكلف صاحبها 80 مليون ليرة»، ليخبرنا أن «كثراً من الصيادين ينزلون إلى البحر على متن قوارب غير صالحة للإبحار، يسرحون أكثر ليعودوا بغنيمة أكبر، ولا يعرفون إن كانوا سيعودون أم لا». غيرهم، ركن القارب على الشاطئ، أو باعه لأنه لا يملك ثمن تصليحه.
صاحب «الفلوكة» التي صعدت إلى البرّ اسمه نادر، يقول: «صبرت عليها حتى صارت في كلّ رحلة تشرب 15 صفيحة ماء». يشير إلى الثقب الكبير الذي يجرّ المياه إلى الداخل، ويحلف أنه «استدان كي يصلحها، لأنه لا يملك مورد رزق آخر».

العائلة البحريّة
على بعد أميال، يجتمع «أبناء البحر». ثلاثة أولاد، محمد وجمال وأحمد (11، 12، و13 عاماً)، يجلسون على كراسٍ تحت مظلّة تقيهم حرّ الشمس. يفرشون الخيطان على الأرض ويثبّتونها بحجارة، ثم يعقدون كل خيطين نصف عقدة، ويسحبونهما إلى وعاء كبير. على رأسهم، يقف جدّهم زكريا الكاخي، الملقّب بأبي عبّود، ليوزّع التعليمات. ويشرح كيف تتحول هذه الخيطان إلى شِباك للصّيد وحبال عريضة تربط المراكب في معمل عبود الكاخي الذي يعود لوالده.
العائلة بحريّة بامتياز. تملك عدا عن المعمل، مراكب للصيد، و«لانشات سياحية». وتشغّل كلّ الأولاد والأحفاد. يشير أبو عبود إلى أحفاده، «الفراخ»، كما يسميهم، ويقول: «لسه في خير الله غيرهم، يأتون بعد قليل»، لا يعرف عددهم. المهمّة واحدة للجميع، وبثمنها، إذ يحصل كل طفل على يومية 200 ألف «ويساهم في مصروف عائلته».
لا يتذمّر الأطفال من هذا العمل. هو برأيهم، غير مملّ وغير متعب ولا يحرمهم من اللعب أو الدراسة. يقول أصغرهم، محمد، إن «العمل سهل جداً، واستغرق تعلّمه ثلاثة أشواط فقط». نزلوا الأولاد البحر عن عمر يناهز الثماني سنوات. هم جيرانه بل أبناؤه. يمضون فيه طفولتهم، ويرسمون على أمواجه مستقبلهم، «أريد أن أصبح قبطاناً»، يحلم محمد وجمال، لذا يملك الأخير قارباً صغيراً جداً، فيما يحلم أحمد على غير موجة: «أريد أن أصبح فلاحاً».