تكاد «باب التبانة» تكون الشاهد الأقوى على الفقر المدقع في طرابلس. ففقرها واضح مثل عين الشمس، يطاول الجميع من صغيرها إلى شيخها. تتحسّسه من ملامح المنطقة البالية، والوجوه البائسة التي تعبُر. أما أبشع مظاهر الفقر فهو الجوع الذي يدلّنا إليه طفل يحمل «سندويش» وزّعتها إحدى الجمعيات خلال نشاط للأطفال. نسأله ماذا يأكل، فيجيب بينما يلتهمها بشراهة من دون أن ينظر إلينا، وقد شارف على إنهائها: «آكل السجق». تصحّح له السيدة في الجمعية: «بل هي طاووق». ربما يختبرها للمرة الأولى، أو أنه نسي طعمها. فسائق الأجرة الستينيّ نسي طعم اللحمة مثلاً، «صرت أمرّ من جانبها، أنظر إليها وتنظر إليّ»، يتحسّر بلهجة ساخرة.
(مروان بو حيدر)

في سوق بيع الخضر بالجملة الحركة خفيفة، والبضاعة مفروشة على الأرض. صناديق الكوسا مكدّسة، وكذلك أكياس البطاطا والباذنجان. يشرح العمّ أحمد ديب، صاحب محل الخضر: «لا نربح أكثر من 3 آلاف، لكن وضع الناس صعب جداً والكوسا تحتاج إلى لحمة ولبن، لذا باتت تتكدّس». ينظر بائع آخر إلى صناديق النعنع والخس المكدّسة ويأسف لرميها، «نكسر سعر البضاعة، ومع ذلك نُجبر في كثير من الأحيان على رميها».
ماذا يأكل الناس إذاً؟ يجيب ديب: «يتقشّفون، ويستعيضون عن تحضير الطبخات بما تيسّر من لبنة وزعتر». أما الفواكه فتبدو ترفاً نظراً إلى ظهورها الخجول في السوق. المشهد ذاته يتكرّر في سوق بيع الخضر بالمفرق. تذكّر سيدة «كيف كان السوق قبل الأزمة يعجّ بالمشترين ليلاً ونهاراً، وتخلو الطاولات من البضاعة منذ العاشرة صباحاً». تتفهّم ما يحصل «فالأسعار صارت ناراً، والغلاء يضرب كلّ شيء بما فيه كلفة السكن حتى بلغ إيجار غرفة واحدة مهترئة مليون ليرة».

لا كهرباء ولا ماء
تعود منطقة باب التبانة عقوداً إلى الوراء مع انقطاع التيار الكهربائي والمياه. وطبعاً هذه حال اللبنانيين عامة. إلا أن الخيارات المتاحة لبقية اللبنانيين، مثل الاشتراك في مولّد كهرباء خاص، أو تركيب طاقة شمسية، تُعدّ ترفاً هنا. الوضع المعيشي المزري يسحق كل هذه الخيارات ويعلّق مصير غالبية أهالي المنطقة على أشرطة كهرباء الدولة التي تخلو من الطاقة منذ أكثر من شهر. فاشتراك أمبير واحد من مولّد خاص يكلّف 30 دولاراً.
الخيارات المتاحة مثل الاشتراك في مولّد أو تركيب طاقة شمسية تُعدّ ترفاً هنا


في زقاق، جدرانه متهالكة يجتمع ثلاثة رجال يشكون «همّهم الأكبر»، انقطاع المياه منذ أن غابت الكهرباء وتعذّر رفعها إلى الأسطح. «كيف نتوضأ؟ كيف نستحمّ؟»، يستنكر خالد. لم يجد أبناء المنطقة في حوزتهم غير تعبئة غالونات ماء من السبيل المجاور لجامع حربة، وحملها إلى منزلهم للاستخدام المنزلي. يتحدثون عن طوابير عند السبيل.
وكما يتحوّل أي حديث لبناني «دارج» إلى انقلاب الحياة جرّاء الأزمة الاقتصادية، يشكو محمد ارتفاع سعر كيلو الهريسة، ما جعلها حكراً على طبقة ضيّقة في باب التبانة، وأجبره بالتالي على إقفال فرنه والعمل يومين في الأسبوع، على حدّ تعبيره: «مين قادر يتحلّى؟ الناس بالكاد يأكلون».

بيئة رخوة لصيد الشباب
في هذه الظروف الخالية من أبسط مقوّمات الحياة والعيش الكريم، يكبر الشباب. انعدمت فرص العمل وتوفرت فرص الانحراف وسط غياب تام لأي رادع قانوني. كيف؟ تغرقهم في البطالة والفقر والعوز وتسحق أحلامهم، وبعد إحباطهم تتركهم يخطئون بلا حسيب أو رقيب. وهكذا، كالسرطان، تفشّت عمليات السرقة والسلب، والنزاعات التي يُشهر فيها السلاح وترمى القنابل لأتفه الأسباب، وتُسفك الدماء ببرودة أعصاب. هذا عدا تعاطي الحشيشة والمخدرات على مرأى العيون. تقول مريم إنه «في الشارع حيث أسكن ينشط البيع والتعاطي في جميع الأوقات، وذات مرة ضبطت القوى الأمنية أحد التجار ثم أطلقت سراحه بعد يومين».

الأطفال: رجولة مبكرة
من الصعب الإقرار أن الأطفال في باب التبانة لا يزالون صفحة بيضاء بانتظار التجربة. البؤس الذي يسكن وجوههم، وحديثهم الذي يتجاوز أعمارهم، يشعرانك بأن صفحتهم تلوّثت بسرعة. وكأن «التبانة» تستعجل تخريجهم من الجامعة ذاتها التي خرّجت شبابها. أيدي الأطفال الصغيرة تزداد خشونة نتيجة عملهم في أعمال لا تتناسب مع أعمارهم. وبشرتهم الداكنة طبعت عليها الشمس سنوات من البقاء في الشارع. وأيّ شارع ذلك الذي يقضون فيه أوقاتهم؟ عنف وتعاطٍ و...
معظم الأطفال يتعلمون في المدارس الحكومية، فيما تسرّب البعض لينالوا شهادة في الجهل والأميّة تسرّع من تخرّجهم في جامعة «التبانة». يجلس محمّد (13 عاماً) برفقة شقيقه نضال (11 عاماً) على قارعة الطريق. إنه وقت الصلاة، الإنسانية برمّتها مشغولة عنهما، لذا يأخذ الطفلان استراحة من عملهما في محل لبيع الخضر. بوجه شاحب وثياب متّسخة يتحدّث محمد عن دوام طويل يبدأ من الصباح الباكر حتى الثامنة مساء، «نعود منهكين فننام على الفور»، الأمر يحزن نضال الذي لا يجد وقتاً للعب. يحصل الأخ الأكبر على 400 ألف ليرة في الشهر فيما الأصغر على 200 ألف فقط. يعاني محمد آلاماً في رجله منذ أن حمل «شوالات» البطاطا من «البيك أب» إلى المحل في اليوم الذي سبق. أخبر صاحب المحل بذلك فسمح له أن يرتاح، «هو عادة يعاملنا بإحسان ولا يوبّخنا إلا عندما نخطئ، مثل ذات مرة عندما كنت أنزّل البطاطا وأخذت الكيس في الأسفل فوقعت حبّاته على الأرض».