«المينا». البحر من أمامك ومن خلفك، حتى ليخيّل إليك أنك على جزيرة، تعرفها من تمثال يمثل شراع البحر على إحدى المستديرات. على البحر وكورنيشه مراكب الصيادين وورش إصلاح السفن، المقاهي البحرية، والكثير من الكراسي المنتشرة منتظرةً روّادها المختلفين. في الفترة الصباحية، ينتشر كبار السّن المستيقظين مع انسلال أول خيوط الضوء على الكورنيش، وفي فترة الظهيرة والمساء، شباب «على القهاوي» يملؤون فراغاً كبيراً بالنقاش في السّياسة والاقتصاد وأحوال العمل إن وُجد، والكثير من «الأراكيل». يتمحور حديث أكثرية الشباب حول «سبل السّفر من لبنان، وأخبار الواصلين إلى ما خلف البحار» ممن عبروا في مراكب التهريب، وعينهم دائماً على المراكب الغريبة وما تحمله، بحسبهم «التهريب يتم بمراكب من خارج المينا».
نزوح وإهمال
كرم الفقراء ملفت للنظر دائماً، تعجّ الأسواق والشوارع الداخلية في المينا، بالقطط متشمّسةً ومنتشرةً على الأرصفة، وتتنقل بين الناس من دون خوف، أما السبب فيعود لقيام أهل المنطقة وأصحاب المحال بمشاركتهم طعاماً عزّ وقلّ في هذه الأيام. إلا أنّ الفقر في المينا لا يختلف عن جارتها طرابلس، ولا يمكن أن تفرّق بين شوارع البلديتين سوى من اللافتات المرحّبة والمودّعة. يعمل من تبقى من سكان أحياء المينا البحرية في المرفأ إما بـ«العتالة» أو «صيادة»، أو «صيانة السفن». في المقابل، تسبّبت الظروف المعيشية القاسية بنزوح أعداد كبيرة منهم عن المدينة بشكل شبه نهائي، وكانت منطقة الكورة الشمالية مقصداً للمسيحيين منهم، فيما توزّع المسلمون بين طرابلس المجاورة وبين بيروت. يعدّد عبد القادر علم الدين، رئيس بلدية المينا السّابق، العائلات الراحلة، ويزيد على أسباب الرحيل «التهميش السياسي الذي عانوا منه سيّما في السّنوات الأخيرة».
مشهد الأحياء الداخلية والأسواق يوحي بإهمال مزمن من قبل الدولة، واشتداد وطأة الأزمة الاقتصادية عليها. بعض المحال شبه خالية من البضائع، وأسعار الخضر ونوعيتها تشي بعدم قدرة أهل المنطقة على الدفع أكثر من حدّ معيّن. في الملحمة كميات قليلة من اللحوم، يشير إليها صاحبها بـ«عيّنة من اللحمة» تباع بـ«نصف وقية أو أقلّ، حسب قلة الليرات».

مشاهد الفقر
مكتبة «دويدي» شاهدة على الوضع. «الصحف المعلّقة في الخارج لا يشتريها أحد، وهي لمسح الزجاج فقط» بحسب صاحبها، ويضيف «نبيع ورق الجرائد لاحقاً بالكيلو». أما الكتب المرصوصة على الرفوف «كلّها مستعمل، ولا يوجد بينها كتاب واحد جديد»، فأهل المنطقة «لا يقدرون على شراء المستعمل حتى». خلال وجودنا في المكتبة يدخل زبون لنسخ ورقة، فيشير صاحب المكتبة إلى آلة التصوير المخبأة تحت شادر، يعتذر منه، ويخبرنا أنّه اختار تغطيتها وتحييدها لأنّه لم يتمكن من تغيير قطعة تكلفتها 40$، وأنّه لم يعد يعتاش من مردود المكتبة، «بل بأموال قادمة من اغتراب أولاده».
تسبّبت الظروف المعيشية القاسية بنزوح أعداد كبيرة من أبناء المدينة عنها


الرفوف الخالية من الأدوية تملأ صيدلية «الجمال». دينا صاحبة الصيدلية ترفض بداية الكلام مع أحد مؤكدة «تخليها عن الدولة بكل أشكالها، الطاقة الشمسية للكهرباء، والبئر الخاصة للماء». عند الإلحاح عليها تعيدنا إلى مشهد الرفوف الخالية، وتتكلم عن «أوضاع مأساوية، الناس غير قادرة على شراء أدويتها، يفتشون عن الدواء الأرخص ثمناً، وإن لم يجدوه لا يأخذون دواء». تتكلم عن أشغال الناس في المنطقة القائمة على «الصيد والأعمال البحرية» لتتساءل عن قدرتهم على دفع أكثر من 500 ألف ليرة ثمن علبة دواء. رفوف حليب الأطفال لا تختلف عن باقي الصيدلية، خالية أيضاً، لا تحتوي سوى 3 علب تؤكد الصورة القاتمة لوضع المنطقة.

في السياسة
هموم الناس لم تكن محرّكاً في السياسة، بل لمنصب رئاسة بلدية المينا ومعها رئاسة اتحاد البلديات الذي يضمّ بالإضافة إلى المينا، طرابلس والبداوي. يتكلم علم الدين بأسى عمّا جرى معه لدفعه إلى الاستقالة من قبل «ناس لا يعرفهم ولا يعرفونه». وهو رئيس بلدية منذ عام 1975، «هاجموا منزلي ومكتبي لأنني لا أمتلك ميليشيا لحمايتي، واستطاعوا الوصول لمآربهم عندما دفعوا أعضاء البلدية للاستقالة». يحكي عن تدمير ممنهج لطرابلس والمينا والمنطقة، عبر «حماية المخالفين من قبل سياسيّي المدينة»، ويضيف علم الدين بأنّ «الملفات كلّها متروكة دون معالجة»، ويعطي مثلاً على ذلك «ملف جبل النفايات» الذي عولج بـ«إنشاء جبل ثانٍ». من وجهة نظره فـ«تهريب الناس عبر البحر يتمّ بمعرفة الأجهزة الأمنية، وعلى عينها»، وبسبب الانهيار العام لم تعد قوى الأمن تلاحق المهرّبين. ولميناء الصيادين حصة من الكلام، «لا إنماء ولا رقابة، يستعمل بعض الصيادين الديناميت لزيادة إنتاجهم ما يؤدي بالتالي لفقدان الثروة السمكية». يختم علم الدين كلامه بالتأسف والترحم على أيام معامل النسيج والحلويات والسكاكر في طرابلس والمينا، يومها كان الاقتصاد منتجاً، أما اليوم فأصبح ينتظر حسنة.