لا بدّ أنّ باقر يقرأ الموضوع اليوم، ويتباهى بين رفاقه الشهداء، فأخباره أصبحت في الصحف. قد لا تعجبه الصورة التي اخترناها، ويقول "في أحسن". أوصانا جميعاً، نحن أصدقاءَه، بزيارة قبره بعد استشهاده، ولذلك سأذهب اليوم لزيارته وأترك العدد على ضريحه، وهكذا أكون أوفيت جزءاً من الوصية. "لا تتركوني وحدي هناك" كان يقول، "بزهق لحالي"، وفي جلسات الكعك والشاي الطويلة يكرّر التوصيات وكأنّه كان يعرف بأنّه راحل عن هذا العالم. لم آخذه على محمل الجدّ، لأمر ما لا أحبّ تصديق أنّ المحبين يرحلون. "باقر" هو الاسم المحبّب إلى قلبه، لم تفارق البسمة محياه يوماً، وكم كان يوم العمل الإداري المملّ يصبح لطيفاً عندما يبدأ بجملة "الله معك يا ابن البلد" من باقر.يظنّ البعض أنّ هناك صورة نمطية واحدة للشهداء، شباب لا يعرفون من الحياة سوى جبهات القتال، ربما ساعدت المقاومة في بداياتها على رسمها، فالمطلوب حينها كان تعبئة الشباب المقاتل، وتجهيزهم لقتال عدو صعب، المواجهات معه في تسعينيات القرن الماضي كانت تعني الإصابة أو الشهادة، فكانت صورة الجيل الأول المقاتلة محكومة للإعلام الحزبي فقط، من دون أن يُسمح بخروج تفاصيل أكثر عن حياة الراحلين الأوائل، باستثناء بعض مقاطع الفيديو القديمة المصوّرة على عجل، ونحن الذين بقينا هنا طمّاعين كثيراً في معرفة تفاصيل حياة هؤلاء، لنفهم أكثر كيف يصل الشاب في "عمر الورد" إلى مرتبة الشهادة، فيرحل.

شهداء الألفية
في ما بعد، أتى جيل آخر من الشهداء، جيل باقر ورفاقه، شباب متأثرون بالألفيّة الجديدة ومحافظون في الوقت عينه على أصالة البدايات، شباب يعرفون من سبقهم ويمشون على الطريق ذاتها، ولكن على طريقتهم. يحبون الحياة وتحبهم، عيونهم المشرقة فيها تشي بذلك، تصرفاتهم كذلك، يعيشون عمرهم بكلّ تفاصيله. باقر بشوش وصاحب ضحكة جذابة، دخل قلوبنا دون استئذان. "النجماوي"، يشجع فريقاً من خارج صندوق "الشباب المتديّن"، لا يعنيه الأمر، ستراه في الملعب ملاحقاً أهداف الفريق وأخبار اللاعبين، وفي مركز عمله سيطرق باب مكتبك بلحن الملعب مع التصفيق صعوداً والإنشاد "يا نجمة"، وسيلاحق مشجعي "العهد" من زملائه في العمل عند كلّ خسارة لفريقهم. تعيد هذه الصور رسم الضحكات والغصات معاً، ولا بدّ أنّه سيقرأ هذا المقطع ويضحك، فهو لم يكن يحب المراثي والبكاء إلا في صلاته ودعائه، والأولى كانت طويلة وفي تمام وقتها، والثاني واظب عليه مع توصيتنا بالدعاء له بالشهادة.

الصور التحضيرية
أحبّ باقر الصور كثيراً، وكان يحرص على التواجد بالقرب من "الكاميرا المنيحة"، ولم يخجل من طلب التقاط الصور له، معلّلاً ذلك بـ"ضرورة وجود صورة جيّدة له بعد استشهاده"، فكان يضحك كثيراً عند استخدام برامج "الفوتوشوب" لإصلاح أو تركيب صور لشهداء لأنّ العامل على البرنامج تفوته تفاصيل تجعل من الصور غير متقنة، ولذلك جعل باقر في كلّ رحلاته محطات للتصوير بلباس مدني أو عسكري، لا يهم، كانت تشغل باله دائماً العبارة المستخدمة لزفه شهيداً، يردّدها كثيراً، وتخيّلها على نشرات الأخبار بـ"زفّت المقاومة الإسلامية الشهيد رائف داغر".
لم يترك باقر ساحات الجهاد، بل كان صاحب روحية عالية، وواضح الأهداف يعلم إلى أين تسير به هذه الطريق، فكان يترصّد الدورات العسكرية الأساسية ويتابعها بحماسة، بل ويرفض أن يقال له "إنّ العمل اليوم بحاجة إلى وجودك فلا تذهب"، فيردّ "بإمكان أيّ كان القيام بمهامي هنا". المرابطات كانت شغله الشاغل، فلا يعنيه عدد أيام محدّد سنوياً إنّما يلتحق عند كلّ فرصة.

الأيام الأخيرة
لا ننسى الأيام التي سبقت المرابطة الأخيرة، إذ جال يومها على المكاتب مودّعاً رفاقه فرداً فرداً، وكأنّه كان يعلم بأنّ هذه آخر الوداعات واللقاءات. دخل مكتب أحدهم ليودعه وعاد مرّة أخرى، فسأله باقر "ألا تريد توديعي بطريقة أفضل؟"، فطلب منه صديقه الرحيل، ممازحاً إياه بـ"أنّك كلّ مرّة تقوم بهذه الحركات"، فردّ باقر "هذه المرّة غير"، وهكذا كانت. ما كانت إلّا أيام وأتت أخبار الاشتباكات الحدودية والاقتحامات المتبادلة في جرود السلسلة الشرقية، لم نعبأ في بادئ الأمر، ففي تلك الفترة اعتدنا هذه الأخبار إلا أنّ كلّ شيء كان مختلفاً هذه المرّة، وكما قلت سابقاً "هذه المرّة غير" ليلة 14 حزيران 2014 في عسّال الورد على الحدود اللبنانية السّورية في إحدى المغاور نلت ما انتظرته وخطّطت له مطوّلاً.
أخيراً، أقول لك يا باقر اليوم إنني لم أدعُ لك يوماً بالشهادة، لم أتمكن من ذلك، رغم ما يؤكّد عليه الدين من أهمية. باقر كان خسارة لنا نحن الذين بقينا هنا أكبر من أن تُعوّض بسهولة. لم أنسَ حتى اللحظة ورغم مرور سنوات على "ولادتك" في حياة ثانية، يوم وقف أحدهم على الباب، وقال لنا: باقر استشهد.