«في القضاء الرسمي، نحكم باسم الشعب اللبناني على ما يفرضه الدستور والقانون. فمنذ البدء تحسّست متانة الرابط بيني، كقاض، وبين الشعب الذي أستمدّ سلطتي منه وأحكم باسمه. لذلك حرصت على أن أكسب ثقة الناس بي، فأستوحي منهم ما يستسيغونه لدى القاضي فأتبعه، وما لا يستسيغونه أبتعد عنه. وهذا ما التزمت به طوال سيرتي القضائية في أي موقع حللت فيه».

من هنا، وفي مقدمة الكتاب، يشير القاضي فيليب خير الله إلى سبب اختيار اسم كتابه أو سيرته الذاتية «نحكم باسم الشعب اللبناني: شهادة حياة» (دار صادر، 2013). الكتاب من الحجم الوسط ويقع في 508 صفحات. ويتألّف من عشرة فصول، مقسّمة إلى ثلاثة أبواب: أوّلها نشأة خير الله وتدوينه لظروف عاشها في ثلاثينيات القرن العشرين إلى حين تبوّئه رئاسة مجلس القضاء الأعلى والمجلس العدلي. ثانيها عمله في القضاء والمحاكمات السياسية التي ترأّس فيها المجلس العدلي، وأهم محطات رئاسته. وثالثها باب الملاحق التي تحوي الصور والوثائق، حيث يعرض فيها: كلماته التوجيهيّة وكلماته في مناسبات مختلفة، بعض ما قيل ونُشر عنه، صور عائلية، قضائية، وصور مختلفة من مناسبات كان قد حضرها، وأخيرًا الوثائق والمستندات القديمة التي تعود إلى عائلته. كُتب بأسلوب سلس وواضح، ينقل من خلال اللغة المستخدمة صورة خير الله، القاضي الكلاسيكي المحافظ والمتحفّظ، والشديد الحرص على سمعة القضاء، والساعي إلى إحقاق الحق في أحكامه رغم كل الضغوط التي عايشها.
لعلّ أبرز ما سيرد في هذه المراجعة ما يتعلّق بالباب الثاني، إذ يعرض نبذة عن تاريخ القضاء اللبناني في فترة التسعينيات، أي فترة ترؤس خير الله للمجلس العدلي ومجلس القضاء الأعلى (1992 – 1997). كذلك إلقاؤه الضوء على عدة إشكاليات طبعت التاريخ الحديث للقضاء اللبناني، ومنها محاكمات قائد حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، والأحكام التي أصدرها بحق المتهمين في عدة اغتيالات. ولم يغفل في مذكراته هذه عن ذكر التدخلات السياسية التي طالت القضاء واستقلاليته، مستفيضًا في إشكالية تعيين قضاة من بين المحامين من دون إجراء مباراة.

مقاومة الضغط الإعلامي
يذكر خير الله أنّه وجد نفسه أمام تحدّيَين منذ بدء محاكمات جعجع: الأول «يتمثّل بالنية الظاهرة لدى القواتيين بمحاولة عرقلة المحاكمات» (ص.233)، إذ كانوا يعملون على إثارة الإشكالات بشتّى الطرق. والثاني: المحافظة على مهابة القضاء والمجلس العدلي.
وتظهر خشية خير الله على سمعة القضاء في سرده لتفاصيل المحاكمات، وذكره للضغوط السياسية والإعلامية التي رافقت الجلسات والأحكام، ما دفع الكثيرين إلى التشكيك في نزاهة العدالة. وانطلاقًا من هذا، يعترف خير الله بأهمية الدور الذي قام به الإعلام في متابعة المحاكمات وفي الضغط على القضاء وتغيير مساره.
وحول هذا، يذكر كيف كانت مراجع القوات تضغط إعلاميًا للبدء بدعوى تفجير كنيسة سيدة النجاة قبل دعوى اغتيال داني شمعون وعائلته، ذلك «أن ملف الكنيسة لا ينطوي على عناصر جدّية لإدانة سمير جعجع، وكانوا يعتقدون بأنه إذا سقط الاتهام في قضية الكنيسة فسيؤدي إلى سقوط الاتهام في الجرائم الأخرى. إذ لكلّ جريمة ملفّها وظروفها وعناصر الإدانة أو التبرئة فيها» (ص.230) وبناءً على هذا، قرر خير الله، من جهته، السير في الدعويَين في الوقت ذاته، تجنبًا لأيّ سوء فهم أو سوء تقدير من قِبل الرأي العام. بحثاً عن القضاء المستقلّ
حرص خير الله أو «راهب العدلية» كما كان يطلق عليه زملاؤه القضاة ومن عرفه، على تعزيز نزاهة القضاء واستقلاليته. وفي هذا الإطار شدّد خلال فترة تولّيه رئاسة المجلس على تقييم عمل القضاة في مناصبهم، وعلى أهلية كل قاض متدرّج، من مختلف النواحي، بناءً على ملاحظات رئيس معهد الدروس القضائية ومديره، والقضاة الذين تدرّب معهم خلال تدرّجه «واعتبرنا أن هذه المهمة غاية في الجدية ولا يصح أن تبقى، كما كانت... أنّ من دخل دخل ويصعب إخراجه» (ص.271) ومن هذا المنطلق، وفي تاريخ 17/8/1995، وعلى ضوء ملاحظات من رئيس المعهد ومديره، تمّ صرف اثنين من المتخرّجين.
لا مجال لخداع أنفسنا بإمكان التوصّل إلى قضاء مثالي في محيط سياسي واجتماعي موبوء بالاصطفافات الاجتماعية والسياسية الحادة حيث الغلبة للقوي أو المستقوي


أكد خير الله أن المسؤولين احترموا قرارات مجلس القضاء الأعلى في ما خص التعيينات والتشكيلات طوال فترة ولايته، لكن هذا لم يمنعه من الاعتراف بتدخّلات أهل السياسة في أعمال القضاء. «هذا لا يعني أن السلطة الإجرائية لم تمارس ضغوطًا على السلطة القضائية في حقبات أخرى، ونعرف ويعرف المتابعون أمثلة عن مثل هذه الضغوط لأغراض سياسية ومنها ما لا يرجع إلى زمن بعيد. لكن السلطة الإجرائية التي تتعدى على استقلال السلطة القضائية في محاولة لتوجيه أحكامها لمصالح سياسية خاصة، إنما تسيء إلى نفسها وإلى السلطة القضائية المفروض أن ترعاها وتحصّنها لتأمين الثقة بها وبأحكامها، وبالتالي الثقة بأن لبنان هو دولة القانون والمؤسسات». (ص. 272)
كذلك أكد خير الله أنّ صلاحيات مجلس القضاء الأعلى، بحد ذاتها، يمكن أن تؤمن استقلالية السلطة القضائية. لكن ذلك يبقى مرهونًا بإرادة السلطة الإجرائية، وبالرغبة لديها في رعاية السلطة القضائية واحترامها وتأمين الوسائل التي تتيح لها ممارسة مهامها باستقلالية تامّة.
أقرّ خير الله بأنّه «لا مجال لخداع أنفسنا بإمكان التوصّل إلى قضاء مثالي وكأنه يشكل جزيرة فضلى في محيط سياسي واجتماعي موبوء بالاصطفافات الاجتماعية والسياسية الحادة، حيث الغلبة للقوي أو المستقوي وفي غياب أي محاسبة أو مساءلة على المستوى السياسي أو الإداري العام»، ولا سيما «أن هناك بقعًا في لبنان ممنوع على القضاء والأجهزة الأمنية الدخول إليها أو تعقّب أحد فيها. كما أنّ هناك أشخاصاً ممنوع البحث عنهم أو التعرض لهم أو القبض عليهم حتى لو كان ذلك ممكنًا، لأنهم ينتمون إلى ما يسمى قوى الأمر الواقع، أو إلى من هم أقوى من الدولة».
لذا يبقى السعي لقيام قضاء مستقل في حدود مقبولة، ويشجّع على ذلك ما تحقق ويتحقق ولو بجهد كبير وبشقّ النفس. كما «تبقى المراهنة هنا على القضاة أنفسهم وعلى تمسكهم باستقلالهم وعلى يقظة ضمائرهم وعلى ما يوليهم موقعهم كقضاة صالحين من مكانة في وطنهم وبين مواطنيهم».



توصيات إلى القضاة
- الانصراف الكلّي للعمل القضائي والتكرّس له والجهوزية العلمية الدائمة.
- التجرّد والشفافية والتواضع والحضور.
- الابتعاد عن مظاهر الترف والثراء وحب الظهور؛ فتصرفات القاضي هي التي ترسم للناس صورته.
- تحاشي المآدب والحفلات الاجتماعية التي لا يكون فيها القضاة إلّا أدوات دعائية لطالبي شهرة أو زعامة أو وسيلة استغلال.
- الابتعاد عن المجالس والهيئات الطائفية والفئوية.
- ثقة الناس هي رأسمال القاضي، هو يكسبها وهو يخسرها بتصرفاته.
- كلمات القاضي ونظراته، وحتى ابتساماته، في مجلسه، محسوبة عليه.