أدى اعتكاف القضاة منذ حوالى ثلاثة أشهر الى تكدّس الملفات وارتفاع عددها. لاحقاً، لن يتسنى للقضاة تجهيزها بمفردهم، وتعيين موعد لكل جلسات المحاكمة وتسجيلها في الدفاتر وتنظيم أوراق الدعوى وإبلاغ فرقائها، وارسال الاحكام إلى الجهة المختصة وتنظيم ملخص للحكم لإرساله للتنفيذ. السؤال: كيف للقاضي وحده أن يتولى كل هذه الالتزامات التي تشكل أهمية كبيرة في إطار المحاكمة والعمل القضائي؟ إذ أنّ هذه المهمات تعود للمساعد القضائي وليس للقاضي. معاً يشكلان جسمًا قضائيًا واحدًا لا يمكن تجزئته والتخلي عن أحدهم دون الآخر. لا تستثني الأزمة الاقتصادية المساعدين القضائيين، فمثلهم مثل سائر الموظفين في القطاع العام تآكلت أجورهم مع ارتفاع سعر صرف الدولار. بات راتب المساعد القضائي لا يكفي لتلبية ابسط حاجاته وحاجات عائلته أو حتى للوصول إلى المحاكم بعد ارتفاع كلفة المواصلات. معاناتهم من معاناة القضاة
قد يكون الكلام حول تراجع القضاة عن قرار اعتكافهم غير دقيق وهو الاعتكاف الذي تسبّب بشلل كامل في قصور العدل والذي أدى ربما إلى تعليق الأعمال القضائية كافة. تقول مراجع قضائية إنه تم الاتفاق على قبول مطالب القضاة كخطوة يظن البعض أنها ستؤدي إلى عودة المياه إلى مجاريها داخل قصور عدلٍ جافة. جافة من المياه، مظلمة لعدم وجود التيار الكهربائي، خالية من الطوابع والأقلام والأوراق ومحابر الطباعة (راجع انفوغراف القوس في العدد رقم 40: قصور العدل في لبنان). ولكن لو افترضنا أنه تمت الموافقة على مطالب القضاة واستقبالهم مجدداً داخل قوس المحكمة التي تخلو من أي مشكلة سواء كانت تتعلق بالصيانة أو النظافة أو نقص في الموارد والمستلزمات. رغم كل تلك الظروف التي يفترض أن تخوّل القاضي الحضور إلى المحاكم للبت والنظر في النزاعات والملفات أمامه، ماذا لو قرر المساعد القضائي الاعتكاف وعدم الحضور إلى وظيفته؟ من دون حضور المساعد القضائي يرجح أن يتوقف العمل من جديد في مرافق العدلية.

من هو المساعد القضائي؟
حدد قانون القضاء العدلي نظام المساعدين القضائيين. وهم رئيس القلم ورئيس الكتبة والكتبة والمباشر والمستكتب في أقلام الدوائر القضائية، ويتم تحديد عددهم وفئاتهم ورواتبهم ضمن مراسيم تتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل (المادة 114 من قانون القضاء العدلي). ويتم اختيارهم بنتيجة مباراة يحدد شروطها وزير العدل (المادة 118 من قانون القضاء العدلي). كما يحدد قانون القضاء العدلي الشروط اللازمة للدخول إلى المباراة، وهي الشهادة المتوسطة للمستكتب والمباشر، شهادة البكالوريا للكاتب ورئيس الكتبة، الاجازة في الحقوق اللبنانية لرئيس القلم. ويعيّن المرشحون الناجحون في المباراة بمرسوم يتخذ بناء على اقتراح وزير العدل (المادة 119).

(هيثم الموسوي)

أما دور المساعد القضائي فهو استلام الدعاوى وتسجيلها وترقيمها ووضعها في ملفات مخصصة لها (المادة 389 و393 من قانون أصول المحاكمات المدنية). كما يساعد الكاتب القاضي في جلسات المحاكمة والتحقيق والمعاينة مع إلزامية تحرير المحضر والتوقيع عليه إلى جانب القاضي تحت طائلة بطلان المحضر والجلسة (المادة 390 من قانون أصول المحاكمات المدنية). وينظم رئيس القلم جداول شهرية بأعمال المحكمة كافة (المادة 392 من قانون أصول المحاكمات المدنية) وجداول شهرية لحضور القضاة والموظفين من أجل بدل النقل، إضافة إلى جدول سنوي يرسل إلى وزارة العدل والتفتيش القضائي ومجلس القضاء الأعلى. كما يعرض على القاضي الملف ويقوم الكاتب بتسجيل الأحكام والقرارات (المادة 392 من قانون أصول المحاكمات المدنية). يرافق المساعد القضائي القاضي في جلسات المحاكمة وعند صدور قرار القاضي أو الحكم وينظم الفقرات الحكمية اللازمة لإبلاغها للفرقاء، وعند انبرام الحكم ينظم خلاصة له ويرسله للتنفيذ (المادة 394 و398 و399 من قانون أصول المحاكمات المدنية). ومن مهمات المساعد القضائي تقديم طلب إخلاء السبيل للقاضي. فطلب إخلاء السبيل مثله مثل الطلبات والمذكرات التي يتم توريدها في القلم وتضم إلى ملفاته وتعرض على القاضي. يبلغ المدعى عليه بطلب إخلاء السبيل لإبداء رأيه لمهلة مدتها 24 ساعة من قبل القلم. يتم بعدها عرض الملف مع الطلب على القاضي الذي يقرر إحالته الى النيابة العامة لإبداء الرأي في الطلب. كما يقوم القلم بإرسال مذكرة للمدعي لإبلاغه بقرار اخلاء سبيل المدعى عليه وللمدعي مهلة 24 ساعة لاستئناف القرار (المادة 115 و116 من قانون أصول المحاكمات الجزائية).
إنّ أعمال ما قبل المحاكمة وخلالها وما بعدها كثيرة، مما يرجح عدم قدرة القضاة على إنجازها بمفردهم. من هنا يأتي دور المساعد القضائي الذي بوجوده يضمن انعقاد المحاكمة وحسن سيرها وتنفيذ حكمها.

ظروف صعبة ولكن
عند اعتكاف المساعدين القضائيين، فإن أعمال المحاكم يصيبها الشلل بشكل كامل لأن القاضي لا يستطيع عقد جلسة من دون الكاتب، ولا يستطيع إصدار حكم من دون توقيع الكاتب. ففي ظل اعتكاف القضاة، يقوم المساعد القضائي بالأعمال المختلفة التي لا تتطلب توقيع القاضي أو حضوره. أو في بعض الأحيان يتولى الأعمال التي تحتاج توقيع القاضي مثل خلاصات الأحكام الصادرة سابقاً، فيقوم بتنظيم تلك الأعمال وتحضيرها إلى حين حضور القاضي لتوقيعها. كما يتولى استلام كافة الطلبات والمذكرات المتعلقة بالدعاوى وتنظيم الخلاصات والبيانات العدلية وفقرات الأحكام الغيابية وتبليغات الجلسات وتبادل اللوائح واستلام الاعتراضات واستئنافات الأحكام الصادرة سابقاً وإعطاء إفادات عن الدعاوى وعن تنفيذ الأحكام لمن يطلبها وتأسيس الدعاوى.
«يساعد الكاتب القاضي في جلسات المحاكمة والتحقيق والمعاينة مع إلزامية تحرير المحضر والتوقيع عليه إلى جانب القاضي تحت طائلة بطلان المحضر والجلسة»


بالنسبة لأحد المساعدين القضائيين في قصر عدل بيروت، فإن معاناة المساعد القضائي هي نفسها معاناة موظفي القطاع العام. فهذه الظروف غالباً ما تؤدي إلى إقدام العديد منهم على قبول الرشوة أو عدم تجاوبهم مع المحامين، كما ازداد تقديم الاكراميات والرشاوى من قبل المحامين والمواطنين لأن «أحوالنا بالحضيض. لكن هيدا أكيد مش مبرّر، بس ما بقدر احكم على الكل. الرشوة بتصير أمام كل الدعاوى المدنية والجزائية بحسب الحالة. مدنية إذا كان موضوع الدعوى مالي أو تجاري يلي بكون أفرقائها البنوك وأصحاب أموال والعقارات. جزائية إذا كان موضوع الدعوى تجارة مخدرات وترويج».
يضيف مساعد قضائي آخر في قصر عدل صيدا أن مهامه تقتصر اليوم على طلبات إخلاء السبيل لكي تتمكن المحاكم بالبت فيها نظراً الى الظروف الصعبة التي يعاني منها الموقوفون. فالمسؤولية تقع على الجميع لإنقاذ الجسم القضائي لإعادة ثقة المواطنين والأهم مراعاة المدعين والمدعى عليهم وحقوقهم.



الرشوة ما قبل الأزمة
للمساعد القضائي أهمية كبيرة بما يشكله كصلة وصل بين أفرقاء الدعوى والمحامين من جهة والقضاة من جهة أخرى. ابتداءً من تعيين موعد الجلسات حتى انتهائها. سلطة المساعد القضائي المعطاة له بموجب القانون تساهم في حسن سير المحاكمة وإحقاق الحق. لكن هذه السلطة ربما تشكل أيضاً خطراً على مبدأ العدالة. تعود الرشوة إلى ما قبل الأوضاع الاقتصادية التي نشهدها اليوم. فإقدام المساعد القضائي على قبول الرشوة ليست ظاهرة جديدة. بادئ ذي بدء لم يستثن قانون العقوبات اللبناني قبول الهدية والاكرامية من جريمة الرشوة. يعاقب قانون العقوبات كل موظف قَبِلَ لنفسه او لغيره هدية او وعداً أو أي منفعة أخرى ليعمل عملاً منافياً لوظيفته (المادة 352 من قانون العقوبات اللبناني). كما يعاقب كل موظف قَبِلَ بأجرٍ غير واجب عن عمل قد سبق اجراؤه من أعمال وظيفته او مهمته (المادة 356 من قانون العقوبات اللبناني). غالباً ما كان المساعد القضائي يقدم على قبول رشوة بحسب أحد المحامين الذي رفض ذكر اسمه مقابل تصوير ملف أو إحدى الأوراق التابعة للملف أو لتغيير موعد الجلسة وتعيين موعد في أقرب وقت ممكن. وأوضح أن هناك ما هو أخطر من ذلك، كإخفاء ملف بأكمله أو تعمد إضاعته وإخفاء تبليغ أحد فرقاء الدعوى وتأجيل موعد الجلسة مما قد يؤثر على مصير الدعوى. «الرشوة كانت من أساسيات التعامل مع موظفي قصور العدل» يضيف المحامي.
الظروف الصعبة التي يعيشها المساعد اليوم لا يمكن عدّها كدافع لقبول الرشوة. طبعاً قبولها لا يقتصر على سائر المساعدين القضائيين بل على جميع الموظفين العامين بالإضافة إلى موظفي القطاع الخاص. فالفساد لا يتعلق بفئة محددة دون أخرى. ربما الرواتب الهزيلة هي ذريعة المساعد القضائي لقبول الرشوة. وللحد من تلك الظاهرة قد يكون من المفيد إما زيادة رواتب الموظفين أو إنشاء صندوق المعاملات المستعجلة الخاصة للمساعد القضائي. أي بمعنى آخر «قوننة» الرشوة. فعند تقديم طلب لإجراءات مستعجلة وللتسريع بإجراءات الملف وتحديد موعد أقرب لجلسة المحاكمة من قبل المحامي أو أفرقاء الدعوى يتم دفع رسم لصندوق المساعدين القضائيين لتوزيع ما جمع من أموال سنوياً كمدخول إضافي للموظفين.