مع البحث عن رئيس جديد للجمهورية، بدأ البحث الجدّي، منذ أيام، في هوية رئيس الحكومة الجديد وانتمائه. فالنقاش حول حكومة تصريف الأعمال ودستوريتها انتهت مفاعيله مع انتهاء عهد الرئيس ميشال عون، وهذا يعني أنه يفترض الانتقال إلى مرحلة جديدة أصبحت كل القوى معنية بها، لحظة أصبح الفراغ الرئاسي أمراً واقعاً.لكن، بقدر ما صارت أسماء المرشحين للرئاسة قيد التداول، وبعضهم مرشح رسمياً وبعضهم الآخر في صورة غير رسمية، بدأ النقاش الجدي بين القوى السياسية حول بروفيل رئيس الحكومة الجديد وأي تسوية يمكن أن تأتي به.
بوشر النقاش، أولاً، في الأسماء المقترحة التي يمكن أن تواكب المرشحين لرئاسة الجمهورية المعلنين على الأقل، رغم أن القوى الداعمة لهؤلاء لم تكن مستعدة لهذه المقاربة مبكراً، لولا أن البحث الجدي انطلق من جانب فريق 8 آذار.
المشهد الحالي للفراغ الرئاسي سبق أن عاشه لبنان بطريقتين مختلفتين، الأولى عام 2007، وانتهت بتسوية أتت تحت وطأة أحداث 7 أيار واتفاق الدوحة، والثانية عام 2014 وانتهت بتسوية أتت بعون رئيساً للجمهورية والحريري رئيساً للحكومة. حالياً، تتخوف أوساط سياسية، محلية وخارجية، من أن يكون المشهد أقرب إلى فراغ عام 2014، ومحاولة إنتاج تسوية مماثلة في الشكل، لكن بمحاذير مختلفة وبحل مختلف في جذوره وأبعاده تماماً، لأنها لا تنضج بفعل توافق أطراف عدة، بل بصياغة طرف واحد، تقدم على أنها تسوية بين طرفين.
عام 2016، كان الحريري أحد الأركان الأساسيين للتسوية، وهو، كزعيم للطائفة السنية ولتيار المستقبل، وقّع عقد توافق واسع مع التيار الوطني الحر وحزب الله والقوات اللبنانية. التسوية الكبرى التي تمت، من فوق، بين زعيم سني قاد بنفسه المبادرة وزعيم مسيحي، قضت بحكومة وحدة وطنية شاركت فيها كل القوى السياسية بما فيها القوات اللبنانية، وانضوى تحت لوائها معظم أركان الطبقة السياسية الذين شكلوا تفاهماً تلو الآخر، قبل الانتخابات وبعدها، إلى أن انفرط عقد التسوية بعد 17 تشرين.
مع الفراغ الجديد، بدأ الكلام الذي لا يزال حتى الآن من طرف واحد، عن تسوية جديدة يقوم بها فريق واحد. أي أن قوى 8 آذار والتيار الوطني الحر يفتشان عن تفاهم على رئيس للجمهورية ورئيس للحكومة معاً. وذلك يعني أن من سيتم اختياره رئيساً للحكومة، لن يكون زعيماً سنياً، وليس نتيجة تسمية الأكثرية السنية السياسية، بل أن اختيار شخصية سنية سيتم من جانب طرف واحد ولو لم تكن هذه الشخصية محسوبة على الموالاة، وإسقاطه على فريق المعارضة. إلا أن حدود هذه التسوية التي يتوسع الكلام عنها، لم تأخذ في الاعتبار أن الكتل المعارضة من قوات لبنانية وكتائب ومستقلين وقسم من النواب التغييريين، لن توافق على مثل هذه الاقتراحات.
الكلام عن تسويات من جانب واحد يعني مجدداً عدم الاعتراف بالوقائع التي أدت إليها الانتخابات

أولاً، لأن قوى 8 آذار هي التي ستختار الرئيس الجديد، بعدما تردد في كواليس سياسية أن التسوية لن تأتي إلا برئيس يوافق عليه التيار الوطني الحر، وهي التي ستقترح كذلك اسم رئيس الحكومة العتيد لتنال موافقة الآخرين عليه، وحكماً ستكون الحكومة من لون واحد حينها، لأن القوى المعارضة سبق أن أعلنت أنها لن تشارك قوى 8 آذار في أي حكومة، ولن تنتج مجدداً حكومة وحدة وطنية على غرار تجربة عام 2016. والنواب التغييريون بدورهم كانوا أعلنوا أنهم لن يشاركوا في السلطة. في المقابل يتركز تعويل قوى 8 آذار، مرة جديدة وليس بتأثير الرئيس نبيه بري وحده، على رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط للمشاركة في التسوية وفي الحكومة في آن. وهذا ما تتوقعه حكماً الكتل المعارضة بناء على تجارب سابقة، ولو أن جنبلاط يسير حتى الآن رئاسياً بمرشح المعارضة النائب ميشال معوض.
تبعاً لذلك تصبح المعارضة أمام سيناريو مختلف هذه المرة، كما يفترض أن تكون عليه مقاربتها لأي نوع من المقترحات المتداولة. انطلاقاً من أن نتائج الانتخابات النيابية أفرزت واقعاً جديداً وقوى جديدة متنوعة سواء لجهة المعارضة أو المستقلين والتغييريين. في حين أن الكلام عن تسويات من جانب واحد يعني مجدداً عدم الاعتراف بالوقائع التي أدت إليها الانتخابات، وأن التوافق الذي تجري الدعوة إليه عبر آليات حوار، سيكون لتسويق اقتراحات أحادية مسبقة، وليس نتيجة تفاهم القوى السياسية. أما كيفية التعامل مع هذا المسار، فرهن بتبعات أي محاولة لفرض أمر واقع جديد، ستكون قوى المعارضة أمام خيار التكيف معه أو مواجهته. وفي الحالتين يصبح الوضع الداخلي أمام محك جديد، لا يبدو من أول مؤشراته أنه يدعو إلى التفاؤل بإمكان تخطيه بسهولة.