كلّما أقفل مقهى في شارع الحمراء، في العاصمة بيروت، فُتح باب العزاء وانطلقت المرثيات. لكنّ العزاء هذه المرة ليس على مقهى «كافيه حمرا» الذي أقفل أبوابه أمس، وهو الذي كان حتى وقت قصير يُعدّ واحداً من المقاهي «الدخيلة» على المكان، بل سقط الحزن على كامل الشارع الذي يحمل اسمه. على صفحة «شارع الحمراء» على موقع فايسبوك، خطّ الزميل ماهر الدنا منشوراً اعتبر فيه أن «كافيه حمرا هرب من الشارع، ليس بسبب ضغط الأزمة الاقتصادية، بل لأن روّاده لا يدخلون إليه وإلى سواه من المقاهي والمطاعم، براحة، إذ أصبحت الأرصفة مرتعاً للمتسوّلين الخطرين وبائعات الهوى ومن يشغّلهم». فما الذي تغيّر في الشارع الذي سُمّي يوماً بـ«شانزيليزيه الشرق»؟لم يعد الحديث عن ظواهر غريبة على الشارع، يدور همساً. حرصُ محبّيه على «إبقاء الأمر سراً» كي لا يسيئوا إليه ويخيفوا روّاده منه خرج عن السيطرة، بما أنّ «المسيئين» إلى صورة الشارع لم يعودوا يخفون ما يقومون به. تتعدّد الشكاوى من المتسوّلين، الذين جعلوا من بعض أرصفته أماكن إقامة دائمة، ومن دعارة تدار علناً، فيما تغيب القوى الأمنية تماماً، حتى هؤلاء الذين اعتاد أهالي الشارع على رؤيتهم يتجوّلون على دراجات هوائية بعد تجديد مخفر حبيش وتحديثه. الحديث عن عجز هذه القوى بفعل تداعيات الأزمة الاقتصادية، لا يُقنع أحداً، إذ كيف يمكن للشارع أن لا يشهد أي عملية سرقة مثلاً، فيما يشهد كلّ هذه التجاوزات؟ يسأل أحدهم.

غياب القوى الأمنية
لم يتقلّص ازدحام الأرصفة، في الشارع الذي عرف أول مقاهي الرصيف نهاية الخمسينيات، إنما تبدّلت أشكاله. حلّ مكان «الكافيه تروتوار»، جحافل المتسوّلين والمشرّدين وبائعات الهوى. تغيب القوى الأمنية في النهار والليل، ما يسمح لهؤلاء بالعمل في كلّ الأوقات. العنصر الدخيل هو الفتيات اللواتي يتجمّعن في عدد من الزوايا على طول الشارع. يحفظ أصحاب المحالّ دوامهم. يتصرّفن بأريحية وبشكل ظاهر من دون تردّد أو خوف. بعضهن تتسوّل نهاراً وتعمل في الدعارة ليلاً. قبل حلول المغيب، تكثر أعدادهن. من إحدى المجموعات في آخر الشارع، خرجت فتاة للحاق بثلاثة شبان. اندسّت بينهم ومشت معهم بضع خطوات قبل أن تعود خائبة. «لم نتفق على السعر» قال أحد الشبان بلهجته العراقية. صديقه يدلّ على سائق التاكسي المرابض قبالة المجموعة. هو نفسه عرض عليهم بأن يحضر فتيات إلى الفندق الذي ينزلون فيه وبسعر بأرخص. الفتيات والسائق بدورهم كشفوا عن ضباط وعناصر أمنيين متآمرين معهم، ويشكلون جميعاً شبكة مصالح متبادلة.
تلك المصالح تضرب مصالح أخرى. إحدى البائعات في محل ألبسة معروف طلبت من الإدارة تقليص دوامها المسائي. لم تعد هي وزميلاتها يرتحن في التنقل في الشارع بعد حلول الظلام. «عملت في الشارع منذ أكثر من ثلاثين عاماً، حينما كانت الظروف الأمنية متدهورة. لكن لم يكن هناك انحلال اجتماعي إلى هذه الدرجة».

انهيار اقتصادي!
يتحوّل شارع الحمراء في الليل إلى حي عشوائي. وعلى وقع أصوات بعض مولّدات الكهرباء التي تحتلّ الأرصفة بسبب عدم قدرة أصحاب المحال على تسديد الفواتير الخيالية لأصحاب الاشتراكات، تكثر الشائعات عما يمارس في ظل انقطاع الكهرباء الدائم. شائعات دفعت براني إلى التجوال في وقت متأخر ليلاً لاستكشاف ما يحصل. لم يترك الأخير الشارع منذ عام 1980. من طالب في مدرسة الكبوشية، إلى وريث لمحلّ والده لبيع الساعات الثمينة. يتحسّر على ما آلت إليه أحوال الشارع الذي ظُلم مرات عدة. من ميليشيات الحرب الأهلية إلى تعويم وسط بيروت على حسابه وصولاً إلى الأزمات الاقتصادية التي أفرغته من مضمونه. يشير إلى إقفال فروع الوكالات العالمية للألبسة والأحذية ونقلها إلى شوارع أخرى. ارتفعت الإيجارات بشكل كبير في مقابل تراجع القدرة الشرائية. ثم أدّى احتجاز الودائع في المصارف إلى فقدان السيولة بين أيدي التجار والمستثمرين. تعثّر التجار المحليين قابلته حركة استثمارات لتجار سوريين غيّروا واجهات المحال. من ماركات الملابس والأحذية والعطورات، إلى القطنيات وبسطات المكسرات واللوزيات وتعبئة العطور.

النرجيلة آخر الدخلاء
أخيراً، اتخذ الكاتب سركيس أبو زيد قراره بإنهاء وجوده الدائم في المقهى الذي عرفه منذ نهاية السبعينيات. «في عام 1968، كنت طالباً في ثانوية الفرير في طرابلس. أهرب خلال دوام المدرسة وأستقلّ الباص إلى بيروت. أنفق مصروفي وأتكبّد عناء الطريق لكي آتي إلى مقهى الهورس شو. عرفت عنه من صفحات الجرائد، أنّه يمثل رمزاً للثقافة والفن والانفتاح وصيحات الموضة، ويلتقي عنده رواد الحمراء». على الرغم من تبدّل أسمائه من «هورس شو» إلى «كوستا» وأخيراً «روسّا»، واختلاف روّاده ومثقّفيه، لم يتبدّد انتماء أبو زيد إليه. وحدها النرجيلة استطاعت فعل ذلك. فقد اضطرت إدارة المقهى إلى تقديمها لجذب الزبائن بعد تراجع عددهم.
لم يتقلّص ازدحام الأرصفة في الشارع الذي عرف أول مقاهي الرصيف إنما تبدّلت أشكاله


النرجيلة جذبت فئات مختلفة، ولا سيما طلاب الجامعات المجاورة. حضورهم وسط دخان نراجيلهم وخرخرة مياهها، دخيل على المكان الذي كان يقصده المثقفون والفنانون والطلاب لارتشاف القهوة ونفث السيجارة والغليون. هنا مرّ عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش ونزار قباني ومحمود درويش... هذا المقهى وسواه من مقاهي الأرصفة على طول شارع الحمراء، شكّلت سابقاً تتمة لجريدتي النهار والسفير والمسارح ودور السينما ومعارض الرسم ومصرف لبنان والجامعة الأميركية ومدارس الإرساليات والرهبان والمكتبات ودور النشر. ليس تلاشي الأمكنة – الرمز، ما أفقد قيمة شارع الحمراء لدى أبو زيد وأقرانه. يقرّ بأن النخب تقلّص حضورها منذ سنوات، إما لأن الكثير من رموزها غابوا، أو فقدوا القدرة على شراء فنجان قهوة بأكثر من مئة ألف ليرة.

ثالث التحوّلات
يرى أبو زيد أن الشارع يعيش تحوّله القسري الثالث والأسوأ. التحوّل الأول كان مع الحرب الأهلية التي غيّرت في ديموغرافيته. صنّفته مع بيروت الغربية، قبل أن تهجّر عدداً من مسيحييه وتجذب مهجّرين من الجنوب والجبل. ثم سيطرت عليه الميليشيات التي كانت تتحكّم بسلوكيات أهله وروّاده بحسب ميولهم وتوجهاتهم الدينية والسياسية. أما التحوّل الثاني، فكان بعد الحرب، عندما ركّز الرئيس الراحل رفيق الحريري ثقل المدينة السياحي والاقتصادي في «سوليدير» وفردان. فيما التحوّل الثالث، فرضه النزوح السوري ثم الأزمة الاقتصادية. سُلبت منه صفة النخبة والبرجوازية لصالح المتسوّلين وصغار التجار والعاملات الأجنبيات اللواتي يقمن أسواقاً شعبية لهن في كلّ أسبوع في عدد من مواقف السيارات.
إذا أردنا الإنصاف، يصعب القول إن شارع الحمراء هو هذا المتخيّل في أذهان المسحورين به: شارع ثقافة ونخبة وموضة فقط. المتسوّلون ليسوا غريبين عنه، وكذلك بائعو البضائع الرخيصة. أغنية خالد الهبر الشهيرة تؤكد ذلك، حين ينادي شارع الألوان بقوله: «يا شارع الثقافة، التجار البياعين/ الكيلو بخمسة البطاطا وبتلاتة الفنانين/ وعربية عليها كوسة وبقدونس وفساتين... ». المشكلة ليست في التحوّلات التي يشهدها أيّ مكان، ولا في اختلاف طبقات روّاده وأعمارهم وجنسياتهم، وإنما في أن يصبح هذا التحوّل مخيفاً لهؤلاء. خوف، يحتاج إلى دولة لتنزعه.