ترفع سيدة مسنّة صورة كبيرة لميشال عون بالبزة العسكرية وتجوب بها طرقات قصر بعبدا. تسير وحدها هاتفة «ما منترك عون وما منرضى بدالو». تعود بذاكرتها 32 عاماً عندما توجّهت، بالحماسة نفسها، إلى «قصر الشعب» ونصبت ورفاقها خيماً دعماً لصمود الجنرال. بين تشرين 1990 وتشرين 2022، تبدو الصورة، في عيونها وعيون كثيرين، متشابهة إلى حدّ مؤلم. لكن، هذه المرة يخرج عون مع «الشعب» بملء إرادته، معلناً أن مهمته كرئيس انتهت. تبدو كلمته متناغمة مع الصورة الكبيرة المنصوبة على مدخل باحة القصر: الجزء الأكبر منها يحتله «العماد» وسط الجماهير رافعاً إشارة النصر بيديه، مقابل جزء صغير لصورته كرئيس للجمهورية مكرراً الإشارة نفسها. يوم أمس، كان توق الجماهير إلى جنرال بعبدا أكبر وأعمق وأكثر ثقة عقب خوضهم حرب استنزاف دامت ست سنوات. يقولونها بسعادة: «مبسوطين خلص العهد… هذا هو التحرير الحقيقي». عون نفسه كان توّاقاً إلى الحرية، كررها صراحة عدة مرات خلال كلمته: «عدنا من الحجر إلى البشر (…) تركت هذه المرحلة التي انتهت، وانتقلت إلى مرحلة فيها نضال قوي»، ليضيف أن «اليوم نهاية مهمة ومش نهاية عمل ووداع».ولأن الجنرال المتمرد لم يعتد يوماً المهادنة، أبى قبيل مغادرته إلا أن يفتح معركة جديدة - قديمة مع أركان «المنظومة» التي تآمرت عليه ونفته ذات يوم، لتشنّ لاحقاً حرباً سياسية ضده انتهت بتكبيل عهده وسوق البلد إلى الانهيار. وهذه المنظومة الحاكمة حصرها أنصاره أمس برئيس مجلس النواب نبيه بري. فما أن تحدث عون عن الجرائم المالية التي ارتكبها حاكم المصرف المركزي من دون أن «نتمكن من إيصاله إلى المحاكمة»، سائلاً «من يحميه؟»، لتهتف الجماهير بصوت واحد «نبيه بري». يسأل مجدداً: «من هو شريكه؟»، فيأتي الجواب سريعاً: «نبيه بري». وبالعبارة نفسها التي ردّدها عون منذ عودته إلى المنفى بقوله إن «البلد منهوب»، كرّر على مسامع العونيين بأن «البلد مسروق بخزينته ومصرفه المركزي… مسروق من جيوبكم»، معلناً بداية المرحلة الثانية لإنهاء «العذاب المفروض علينا»، ومراهناً على استخراج الثروة الوطنية المتمثلة بالنفط والغاز «لإنقاذ لبنان».
بعودة الجنرال إلى الرابية انتهت حرب استنزاف دامت 6 سنوات


عاش عون والعونيون أمس نوستالجيا أخرى انتهت بزفّة أمام منزله في الرابية. الثابت أن ثقة هؤلاء الشباب والعجّز بقائدهم ومحبتهم له راسختان رغم كل المطبات والمؤامرات والتحديات. يكفي أن يقول لهم «اشتقنالكم» لتغرورق أعينهم بالدموع الممزوجة بالهتافات المبايعة له: «بالروح بالدم نفديك يا عماد». حتى الضباط المنتشرون حوله لم يخفوا دموعهم. «الوداع مؤلم ومحزن لا سيما أنه يأتي بعد ظلم كبير»، تقول صونيا غاريوس، زوجة النائب السابق ناجي غاريوس وإحدى المناضلات التي لم تترك عون وعائلته لا قبيل نفيه ولا بعده. تترك الدموع تنساب على خديها ومثلها يفعل ابنها، والعونيون المحيطون بهما. فرحة تحرّر عون، امتزجت بغصة لا سيما من الفريق المحيط به، والذي يغادر أيضاً القصر للمرة الأخيرة. النواب كانوا هنا، حاليين وسابقين، ومنهم من ترأس مواكب مناطقه منذ الصباح. الوزراء أيضاً هنا وإلى جانبهم ناشطون قدامى ويافعون وطلاب يخوضون المعركة السياسية الأولى. خصّهم عون بشعلة سلّمها إلى إحدى الطالبات تأكيداً على استمرار النضال وتحميله إلى جيل التيار الجديد. الفتاة نفسها أضاءت بواسطة الشعلة، شعلة أخرى منصوبة على «مجسم التحرر» الذي يُمثّل المعارك التي خاضها عون، وتلك التي سيخوضها مجدداً من أجل التحرر. هكذا، على وقع الدموع والأناشيد والهتافات وزغاريد النساء، خرج «فخامة الرئيس» من «بيت الشعب» ليتابع مسيرته السياسية معارضاً من منزله في الرابية حيث استقبلته السيدة الأولى وبناته الثلاث.



الرابية لن يحلّ محل «ميرنا الشالوحي»
عاد الرئيس ميشال عون إلى منزله الجديد في الرابية. وهو المنزل الأول الذي يكون لعون، في السابعة والثمانين من العمر، رأي في هندسته وشكله وتأثيثه، بعدما تنقّل طويلاً بين مساكن الضباط حتى انتخابه قائداً للجيش، قبل أن يعود من المنفى الفرنسيّ إلى فيلا في منطقة الرابية وضعها أحد الأصدقاء في تصرفه. والمنزل أقرب إلى مقر سياسي، سيكون قسم صغير منه بيتاً للعائلة يجتمع فيه الأحفاد، إلى جانب غرفة اجتماعات كبيرة، ومكتب صغير، ومكتبة تضم عدداً كبيراً من الكتب التي جمعها الرئيس عون في مسيرته الطويلة، وأرشيفاً غنيّاً أعدّته ابنته كلودين عون. ولا ينوي عون أن يحل مسكنه الجديد محل مركز التيار الوطني الحر في ميرنا الشالوحي، لكنه يتطلع إلى دور استنهاضيّ له على مستوى القاعدة الشعبية العونية، ووصل ما انقطع بين كثيرين لأسباب مختلفة، والعمل على استقطاب من تعبوا أو فقدوا الأمل أو حردوا وغادروا لأسباب مختلفة. وهو سيستعين بفريقه القديم من غير الموظفين، على أن لا يتجاوز عددهم ثلاثة أو أربعة، لرغبته في منح أسرته الخصوصية التي فقدتها منذ العودة إلى لبنان عام 2005.