ثمانية عشر عاماً، أكثر من 2000 شهيد مقاوم (لا يوجد للأسف إحصاء دقيق لعدد شهداء هذه الحقبة، وإن كانت المقاومة الإسلامية أعلنت وحدها انتماء 1276 منهم إليها)، آلاف العمليات الغُوارية المختلفة الأنواع (ثمة إحصاءات وثّقت نحو 20 ألف عملية تبدأ برمايةٍ من سلاح خفيف وصولاً إلى اقتحام مواقع الاحتلال والعمليات الاستشهادية)، منطقةٌ غزاها الاحتلال الإسرائيلي، اتسعت مساحتها إلى 3430 كلم مربعاً عام 1982 لتستقر، بفعل ضربات المقاومين، على 955 كلم مربعاً عام 1985، استعادت انتماءها وحريتها. ذاك كان المسار المكثف للتحرير الأول عام 2000. التحرير بالاستنزاف.

في التحرير الثاني، عام 2017، ستتغير - نزولاً - المعطيات الرقمية ذات الصلة بالزمن والتضحيات، وسيكون هناك متغير نوعي على صعيد الطبيعة العسكرية للعمل المقاوم. نتحدث هنا عن خمسة أعوام من المواجهة، بين عامي 2013 و2017، ارتقى خلالها نحو 200 مقاوم شهيد (وفقاً لإحصاءات غير رسمية)، يضاف إليهم 23 شهيداً من الجيش اللبناني والقوى الأمنية بحسب إحصاءاتهم. ارتقى هؤلاء في إحدى عشرة عملية عسكرية هجومية نظامية (يُعطف إليها «فجر الجرود» لتصبح اثنتي عشرة) أسفرت في تراكم نتائجها عن تحرير ما يقرب من 480 كلم مربعاً على الجانب اللبناني من الحدود، ونحو 1430 كلم مربعاً على الجانب السوري؛ أي ما مجموعه 1910 كلم مربعة. الإشارة إلى المساحة السورية المحررة هنا ضرورية لأنها تدخل في صلب تحرير المساحة اللبنانية بالمعنى الجيوعسكري.
مشهدية التحرير الثالث تنهض على خصائص تجعله ينتمي مفهومياً - أو يكاد - إلى نموذج مختلف، وربما جديد. في المعيار الزمني، أربعة أشهر فقط هي المسافة الوقتية التي استغرقتها معركة التحرير بين انطلاقها ونهايتها. وهي معركة وصلت إلى خواتيمها المظفرة من دون أي تضحية على الصعيد البشري، أو حتى خسائر على المستوى الاقتصادي. المساحة المحررة تبلغ - بالمعنى التقني الضيق - 370 كلم مربعاً، هي المنطقة «المتنازع عليها» بين خطي هوف و23، لكنها بالمعنى السياسي والاستراتيجي الأعم تتجاوز التسعة عشر ألف كلم مربع، هي مساحة المنطقة الاقتصادية البحرية الخالصة التابعة للبنان. ذلك أن المكتسبات اللبنانية - المعلنة رسمياً - من تلك المعركة جمعت بين انتزاع السيادة ببعدها الجغرافي على منطقة «النزاع» المشار إليها، وانتزاعها ببعدها الاقتصادي على عموم المنطقة الاقتصادية الخالصة بعد رفع قرار الحظر الأميركي على الاستثمار فيها.


أما المؤونة العملياتية لمعركة التحرير هذه - وهنا مدعاة لتمعن استراتيجي دقيق - فقد اقتصرت على: أربعة خطابات، ثلاث مسيّرات، وفيلم قصير. من الواجب طبعاً الإشارة إلى الاستعدادين الجزئيين، الشعبي والسياسي، لتغطية واحتضان القرار الإستراتيجي الذي عبّرت عنه الأسلحة المستخدمة أعلاه، والأهم - الاستعداد العسكري الكامل الذي استند إليه القرار داخل تشكيلات المقاومة.
الخطابات الأربعة للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله (10 حزيران، 13 تموز، 9 آب و17 أيلول) أعلنت عملياً حرباً مع وقف التنفيذ، حددت هدفها (انتزاع الحق في الثروات الغازية والنفطية اللبنانية واستثمارها)، ثبّتت مُهَلاً زمنية لتحقيقه، وأشهرت القدرة والإرادة، الثابتتي الصحة والصدقية بالتوالي في وعي العدو، على خوض هذه الحرب. المسيّرات وفيلم الإعلام الحربي كانا أشبه بإشارات تحفيزية على التقاط المعنى. بقدرٍ موازٍ في الأهمية، تضافرت استثنائياً جملة عوامل في صناعة فرصة نموذجية بالنسبة للمقاومة لاقتحام المشهد، أو قل اختطافه: مشروعية الهدف (أسس لها إلى حد كبير «الفلتة» أو البراعة التفاوضية اللبنانية - لا يهم - في ربط النزاع مع الخط 29 حيث يستقر «كاريش»)، الجداول الزمنية المُلزمة تجارياً لعمليات الاستخراج في الحقل المذكور، الوضع الأمني المنتفض في الضفة الغربية، والأهم على الإطلاق البيئة المهتزة لأمن الطاقة العالمي في ظل الحرب الروسية - الأطلسية في أوكرانيا. التراكض الدولي الذي حصل بين حزيران وأيلول سعى إلى إطفاء فتيل أشعلت المقاومة طرفه الأول، وكان يتصل في الطرف الآخر باحتمال مرجح لانفجار إقليمي مرعب في لحظة إسرائيلية ودولية حرجة. بمعانٍ كثيرة، كنا أمام نموذجٍ صافٍ من استخدام السطوة العسكرية في سبيل تحقيق أهداف جغرافية وسياسية واقتصادية لا تخلو من بعد استراتيجي. كان ذلك التحرير بالردع.
من جهة، يسهل الوقوف على محطات كثيرة استخدمت المقاومة فيها قدرتها الردعية مقابل العدو؛ لكن جميع هذه المحطات أتت في سياق تكريس معادلات وقواعد اشتباك حمائية. الغاية منها كانت ذات طابع سالب: منع العدو من ممارسة أنواع محددة من الاعتداءات ورسم حدود جغرافية وموضوعية يحظر عليه تجاوزها.


من جهة أخرى، يسهل، أيضاً، تحديد شواهد تاريخية استُخدمت فيها سطوة عسكرية رادعة لتحقيق أهداف موجبة (منتزعة) سياسية أو جغرافية أو اقتصادية من دون قتال؛ إلا أن السمة الجامعة لهذه الشواهد هي أن الجهة الساطية (القاهرة أو المُستَولية) كانت على الدوام تتمثل في دول كبرى أو عظمى أو مقتدرة – دولياً أو إقليمياً- مارست الإستضعاف ضد جهة (دولة أو حكومة محلية أو منظمة) أضعف قدرةً وأوهن شأناً.
بين النموذجين، يصعب العثور- حتى لا نتورط بالنفي القاطع - على علاقة ردعية مارس فيها الطرف الأقل قوة - وفقاً لكل موازين القوى المعتبرة، خلا الإرادة - سطوته العسكرية على الطرف الأقوى وتمكن من ارضاخه وانتزاع مكتسبات مادية محددة منه. ما فعلته المقاومة في لبنان كان من النوادر العسكرية التاريخية على هذا الصعيد. انتصارها الأخير كان مزيجاً من حربٍ نفسية وحربِ إرادات و«حرب أدمغة» - المصطلح الشهير الذي سبكه العدو الإسرائيلي إبان صراعها معه في تسعينيات القرن الماضي - لكنه اكتسى حينها فهماً يتصل بالتكتيك الميداني، فيما يمكن ترجمته حالياً بفهمٍ يتصل بالذكاء السياسي الاستثنائي في ضبط ظرف سياسي واستراتيجي واقتصادي شديد الخصوبة وتلقيحه بتهديد جدي بما يكفي لاستيلاد نصر كالذي حصل.
وكما في التحريرين الأول والثاني، كان انتصار المقاومة الأخير صافياً حد النقاء. ليس فقط أن التنازل الذي انتُزع من العدو كان تحت ضابطة «من دون قيد أو شرط»، إنما - والأهم - أنه اتسم بصبغة المعادلة الصفرية. أجاد يوفال شتاينتس، وزير الطاقة الإسرائيلي السابق، في توصيف ماهية التفاهم الذي حصل بين لبنان وإسرائيل. رأى الرجل، الذي اعتزل السياسة قبل أشهر، ولذلك يبتعد توصيفه عن ريبة الانحياز السياسي، أن ما حصل لم يكن تسوية، وإنما تنازل أحادي الاتجاه ومن دون مقابل، بنسبة 100 في المئة، من الجانب الإسرائيلي لمصلحة الجانب اللبناني.
في الواقع، الحديث عن «تحقيق» مكاسب إسرائيلية جراء التفاهم يحتاج إلى تدقيق. إسرائيل لم تنتزع شيئاً لم تكن تمتلكه؛ «مكاسبها» انحصرت في حماية أصول تمتلكها من خلال إبعاد شبح التهديد عنها، وفي سبيل ذلك دفعت الأثمان التي طلبها الطرف المقابل، رغم أنها كانت تدّعي حقاً فيها.
إذا كان من شيء يدل على حراجة وضع تل أبيب الذي انبثق منه موقفها من التفاهم، فليس هناك أدل من تصريح وزير الدفاع الإسرائيلي، بيني غانتس، حول أن «الاتفاق كان ضرورياً قبل الانتخابات»! ضروري؟ لماذا؟ إسرائيل التي أمْلَتْ على العالم منذ الأزل النزول عند حساسيات ظرفها السياسي الداخلي وتحديداً الانتخابي، لم تتمكن من التلاعب حتى بالوقت في مُضيِّها قدماً نحو تقديم تنازلات عن أصول أساسية كالحدود والنفط قبل أيام من انتخابات مصيرية.
يصعب العثور على علاقة ردعية مارس فيها الطرف الأقل قوة سطوته العسكرية على الطرف الأقوى وتمكن من إرضاخه وانتزاع مكتسبات مادية محددة


قبل 14 عاماً أرسى تقرير فينوغراد نبوءة وجودية بالنسبة للدولة العبرية. في مقدمة التقرير الذي وثّق لهزيمة حرب لبنان الثانية رأى معدّوه أن «إسرائيل لن تتمكن من أن تصمد في هذه المنطقة، ولن تتمكن من البقاء بسلام أو هدوء، من دون أن تعتقد هي نفسها، وأن يعتقد محيطها، بأن الجيش الإسرائيلي قادر على الانتصار، وأن لديها قيادة سياسية وعسكرية وقدرات عسكرية وحصانة اجتماعية تتيح لها أن تردع، وعند الحاجة أن تهزم كل جيرانها الذين يسعون إلى تدميرها وأن تمنعهم بالقوة من تحقيق رغبتهم».
سياقات التحرير الثالث، وبشكل آكد الانتفاضة البطولية المشتعلة في الضفة الغربية هذه الأيام، و«سيف القدس» من قبلها، وكل التراكمات التي سجلها زمن الانتصارات منذ نحو عقدين، جميعها شواهد تصرخ بأن آجال تحقق تلك النبوءة لم تعد بعيدة. من ينتمون إلى محور المقاومة في محيطها، يعتقدون جازمين أن إسرائيل لم تعد قادرة على الانتصار، أما هي نفسها، فلننتظر حتى تستقر محاولاتها المستمرة منذ سنوات في العثور على تعريف جديد للانتصار!