في إحدى زوايا مستشفى الكوليرا الميداني، الذي افتتحته وزارة الصحة العامة أمس في ببنين (قضاء عكار)، تكوّم محمد الجندي في سريره. لم يسعه نعي زوجته هويدا العلي (37 سنة) سوى بدموع صامتة وتنهدات عميقة. يأسره كيس المصل المشكوك في يده، وعوارض الكوليرا التي يعاني منها مع طفله النائم في السرير بجانبه. لا يستوعب الجندي بأنه فقد زوجته وأم أطفاله الثلاثة قبل ساعات فقط، متأثرة بإصابتها بالكوليرا، كما شخّص الأطباء حالتها في مستشفى حلبا الحكومي. «ليلة أمس كانت طبيعية. تناولنا العشاء، ثم لعبت مع الأطفال قبل أن تجهّزهم للنوم. فجأة، شعرت بغثيان ودوران وأصيبت بإسهال. نقلتها إلى المستشفى حيث أسعفوها وتناولت محلول مصلين اثنين. لكن صحتها تدهورت فجراً بشكل سريع، وتوفيت صباحاً».منع الأقارب الزوج المكلوم من المشاركة في تشييع زوجته. اصطحبوه مع أحد الأطفال، الذي ظهرت عليه العوارض، إلى المستشفى الميداني الذي افتتح صباحاً في القاعة السفلية لمستوصف الإيمان التابع للجمعية الطبية الإسلامية في ببنين. الوزارة المتعاقدة مع ذلك المستوصف، جهّزت الأسرّة وبعض الأدوية، فيما تولت الجمعية استكمال التجهيزات، بحسب مديرة المستشفى ناهد سعد الدين. طوال ساعات النهار، تبدّلت وجوه المرضى وتباين عددهم وجنسيتهم. قبل الظهر، كانت غالبية المرضى من السوريين، فيما رجحت كفة أبناء ببنين وجوارها بعد الظهر. بحسب سعد الدين «يقدّم المستشفى الرعاية الأولية للمصابين، منهم من يحتاج لأمصال ورعاية عادية ومنهم من تستلزم حالته نقله إلى المستشفيات الكبرى».
بين المرضى يجول الطبيب الصيدلي حسان قدور، نائب رئيس بلدية ببنين برفقة عناصر أجهزة الإغاثة في المستوصف والبلدة. بحسب قدور، تعتبر ببنين واحدة من أكبر بؤر الكوليرا الحالية. وفيها يقيم 90 ألف نسمة بينهم 20 ألف نازح سوري. «انتشرت الإصابات بشكل سريع خلال الأسبوع الفائت. وبرغم أنها بدأت بين النازحين السوريين، لكن كان من الطبيعي بأن تنتشر بين أهالي البلدة والجوار بسبب اندماجنا معهم». ومن المنتظر بأن تصدر البلدية قراراً بإقفال مدارس البلدة البالغة 12 بعد بروز حالات عدة بين التلاميذ.

الريحانية: بين الترهيب والوباء
عند الحدود بين بلدتي بحنين وببنين، وعلى بعد أمتار من سدّ ببنين وقناة ريّ نهر البارد، يقع مخيم الريحانية للنازحين السوريين. فوق بوابة حديدية، ارتفعت لافتة كتب عليها «تجمّع إنماء للتأهيل والتنمية والإغاثة». ومن خلفها امتدّت حوالي 270 خيمة في صفوف متراصة تزنّرها أسلاك شائكة.
في المخيم القائم على عقار خاص، يتقاضى صاحبه بدلاً مالياً بالدولار الأميركي، ارتفع عدد من الخزانات بين الخيم، تُملأ من بئرين ارتوازيين حفرتهما الجمعية الإسلامية التي تديره. يقول السكان بأنهم مطمئنون لنوعية المياه. حتى أنهم ينفون وجود أية حالة كوليرا بينهم، برغم ثبوت أول إصابة على مستوى لبنان في ذلك المخيم. لا يسمح ممثلو الجمعية المشغّلة ووكلائها السوريين بأن نستصرح المقيمين. مدير المخيم، كما عرّف عن نفسه، طردنا بالقوة والتهديد، مستقوياً بمساعد له كان يضع مسدساً على خصره. في حين أن بعض النازحين أشار لنا بأنهم «يُمنعون من تأكيد انتشار إصابات الكوليرا بين سكان الريحانية، خوفاً من تضرّر مصالح الجمعية والمستفيدين».
أحد السوريين المقيم قبالة المخيم في شقة في أحد المباني، أشار إلى مستنقع الصرف الصحي المتجمّع عند واجهة المخيم الشرقية والناتجة من الحي السكني في ضهور بحنين «يفيض على المخيم في كلّ فصل الشتاء ويغرق الخيم». وبحسب أبو علي، اللبناني المقيم في أحد المباني، فإن ذلك المستنقع يتجمّع منذ سنتين بعد تعطل شبكة الصرف الصحي الخاصة بالحيّ من دون إيجاد من يصلح الأعطال! يجول معنا طفلان سوريان يقيمان في «كاراج» مجاور للمخيم. «لو بتشوفي الجورة بجانب البيت كيف تبقبق». يشيران إلى تعدّد الحفر التي تُجمع بها المياه المبتذلة. يعرفان جيداً «الري» وهي اختصار قناة نهر البارد المجاورة. «نسحب منها المياه للغسيل والشطف وأحياناً للشرب».
تتجه البلدية إلى إصدار قرار بإقفال المدارس بعدما انتشرت الكوليرا بين التلاميذ


رضوان صاحب استراحة مجاورة للمخيم ينحدر من المحمرة، ويسكن في ضهور بحنين. لكنه يشكو بلديتي ببنين وبحنين معاً. «سكان المنطقة ضائعون بينهما. لا تصلنا خدماتهما في إصلاح أعطال شبكة الصرف الصحي أو رمي النفايات المنتشرة. فنحن لا ننتخب لا هنا ولا هناك». يطمئن رضوان بأنه محمي من الكوليرا لأنه يستعمل مياه بئره الارتوازي الخاص به. إلا أنه سرعان ما يتنبّه للخضر التي تروى من قناة الريّ، ويستعرض عدد البلدات التي ترمي مياهها المبتذلة فيها على طول 20 كيلومتراً من شلال نهر البارد إلى سهل عكار.
بين جيران الريحانية و الكثير من أهالي ببنين، تصاعد الهجوم على المخيم لاتهامه بجلب الكوليرا. مطالب جدية صدرت لإقفال المخيم وسواه من التجمّعات المنتشرة في الأحياء. في مخيم النابلسي المؤلف من أقلّ من عشرين خيمة عند محل ببنين، يشكو أبو عزو الجور الذي يمارس عليهم. «نحن ضحايا الوباء والأمم (مفوضية اللاجئين) التي خفضت كمية المياه النظيفة المستحقة لكل فرد من 20 ليتراً إلى سبعة ليترات. وأحياناً نشاهد بأن صاحب الصهريج المكلّف بملء خزاناتنا بالمياه النظيفة مقابل آلاف الدولارات، يسحب المياه أحياناً من قناة الري».

«يا ضيعان المي»
تقطع السواقي المتفرّعة من قناة ريّ نهر البارد، الأحياء السكنية. معظم حالات الكوليرا ظهرت في تلك الأحياء. بمحاذاة سدّ صغير ضمن القناة، يجلس أبو زياد تحت فيء شجر الزيتون في أرضه قبالة منزله. ينظر ابن الـ87 عاماً إلى المياه البنية ويتحسّر على القناة ومياهها. «كنت تستحلي تشرب نقطة ماء منها عندما أنشئت في السبعينيات». يقرّ بأن الصرف الصحي وجّه إليها من الجانبين.كما يقرّ بأن أرضه، على غرار أراضي المنطقة، تروى من القناة. لا يستغرب أن تكون الكوليرا منتشرة بين جيرانه. ابن شقيقه عامر عوض، المقيم قبالته من بين جيرانه، يستعرض لائحة طويلة من الملوّثات لا تقتصر على الصرف الصحي. «حيوانات نافقة ترمى فيها والنفايات. حتى إن البعض يذبح المواشي على ضفتيها». يجزم نجله بأن غالبية صهاريج بيع المياه تملأ حمولتها من القناة «لكي توفر كلفة الوصول إلى نبع البارد». لا يلبث عوض بأن يلتمس عذراً للناس. «الكهرباء مقطوعة منذ أشهر. كيف نشغل محطة الضخ لنملأ الخزانات؟». تحاول الأمهات منع أولادها من اللعب فوق السواقي كما اعتادت. «لا يمكن بأن نسيطر على الأطفال»، تقول إحداهنّ وتتحسّر على أيام وباء كورونا. «الكورونا أسهل. كنا نضع كمامة وكفى. أما الكوليرا، فلا ندري من أين نصاب به».