انتشار كالفطر
في بيروت وضواحيها، تنتشر هذه المعاهد كالفطر بين الأبنية والأحياء، كلّها تعدك بـ«الأفضل والتفوّق والنتائج الباهرة»، ولا ننسى «الأسعار المدروسة»، أو هكذا يعدون. هذه الطفرة تعود لافتقار السّوق لفرص العمل الحقيقية للخرّيجين، الذين يجدون أنفسهم من دون عمل بعد إنهاء مرحلة التعليم الجامعي، فيقومون بـ«تعليم ما تعلّموه»، عبر افتتاح المعاهد من دون دراسة مسبقة، وهذا الأمر يؤدي أيضاً إلى افتتاح عشرات معاهد التعليم سنوياً وإغلاقها. أما معيار النجاح من الفشل فلا يعود للخبرة أو تقنيات التدريس المعتمدة، بل للكاريزما والقدرة على جذب التلامذة. كما أدّت أعداد الخريجين الجامعيين الكبيرة إلى منافسة زادت من عدد أساتذة التعليم الخصوصي بشكل كبير، وتسبّبت وفق أستاذ محترف في هذا المجال إلى انخفاض كبير في تسعير الساعة من 40$ إلى 20$ لكلّ ساعة تعليم للمرحلة الثانوية.
الدولارات التعليمية
إذاً، لا يكاد يخلو حديث مجموعة أساتذة من كلام، أو تخطيط لافتتاح معهد. في إحدى ثانويات المتن يُجمع أساتذة المواد العلمية الأربعة (فيزياء، كيمياء، علوم طبيعية ورياضيات) على أهمية افتتاح معهد في إحدى قرى المنطقة، لتعويض تدني قيمة رواتبهم، وعدم وجود معهد قريب في المنطقة، والأهم من ذلك كلّه هو استشرافهم «عاماً دراسياً متعثراً»، بالتالي سيكون المعهد التعليمي الملجأ الأول لتلامذة المدارس الرسمية، وهذا ما لمسه المخططون هنا السّنة الماضية. فهناك رأي سائد بين الأساتذة (لا نناقش صحته) مفاده «المعاهد التعليمية مسؤولة عن ارتفاع نسب النجاح» كونها غير معنية بالإضرابات، وتفتح كلّ أيام الأسبوع، وبعض المدرّسين فيها محترفون في تدريس «المنهاج اللبناني البالي»، الذي يمكن توقع أسئلة امتحاناته من خلال نماذج الامتحانات الرسمية المجموعة في كتاب «الشامل»، والمتاح في كلّ المكتبات.
يشبّه أحد الأساتذة المعاهد اليوم بـ«اشتراك الكهرباء»، والمدرسة الرسمية بـ«كهرباء الدولة»، ليصل إلى فكرة مفادها «الأخيرة غائبة تماماً». وعليه ترتفع تكلفة التعلّم في المعاهد و«تتدولر». منها من يحاسب على المادة، فتتراوح القيمة المدفوعة بين 25 و30$ شهرياً، على أن لا يتجاوز الحضور اليومين أسبوعياً، ومنها من يطلب «مقطوعة» على المواد العلمية الأربعة فيصبح المبلغ المدفوع بين 100 و150$ شهرياً. أما التلامذة الصغار (المرحلة الأساسية)، فحسابهم الشهري يتراوح بين مليون ونصف ومليوني ليرة شهرياً على «الأجندة» (المفكرة اليومية)، أي يقومون بتدريسهم كلّ الواجبات المدرسية اليومية. وتلفت أستاذة هنا إلى «غياب شبه كامل لرقابة الأهل عن متابعة أبنائهم».
فرصة وتهديد
في المقابل، بالنسبة للأهل غير القادرين على متابعة تحصيل أولادهم العلمي بسبب الانشغال العملي أو عدم المعرفة، يصبح المعهد الملجأ المناسب لهم. هناك يهتمّ الأساتذة بالمفكرة اليومية للأولاد، ولا يعودون إلى منازلهم إلا بعد إنجازها تماماً، و«تقوم الأم بالتأكد من إنجاز الواجبات فقط» وفق سعاد قاروط العاملة بدوام كامل، والأم لتلميذين في المرحلة الثانوية. تقول إنها لا تجد الوقت اللازم لمتابعة تدريس أولادها في المنزل، وتركها للعمل سيؤدي لوقوع المنزل في مصاعب مالية، لكنها تعي أنّها تدفع ثمن هذا الوقت «غالياً، على المستوى المادي والعاطفي». أما عايدة، لا تعمل، ولكنّها لم تكمل تعليمها، فـلم تعد قادرة على مواكبة الدروس منذ تخطي الأولاد للصف الثامن.
التسجيل في المدرسة بات شكلياً لزوم الملف في الوزارة للتقدّم للامتحانات
تذكر جيداً أسئلة ابنتها في مادة الرياضيات التي لم تستطع أن تفك طلاسمها، «استعنت بالجيران تارةً، وطلبت من ابني تعليم أخته تارةً أخرى». لا تخفي خوفها من «إعادة التاريخ لنفسه»، فهي واجهت المشكلة نفسها في بيت أهلها قبل أن تيأس من التعلّم، فكانت المعاهد التعليمية هي الحلّ لأولادها.
في المدارس، يعرف بعض الأساتذة مباشرةً أنّ تلامذتهم يتابعون دروساً خاصة في المعاهد، «من طريقة كتابتهم لبعض المسائل، واستعمال تعابير لم نمرّ عليها في الصف»، وما يحزنهم في الأمر «عدم احترافية بعض أساتذة المعاهد الذين يدرّسون التلامذة بطريقة غير منظمة ما يؤدي لتداخل كبير في المعلومات المحصّلة بين المدرسة وبين المعهد». وتتفاقم هذه المشكلة عند بعض التلامذة، فيتركون المدرسة، لا سيّما الرسمية، ويصبح تسجيلهم فيها انتساباً فقط «لزوم الملف في وزارة التربية» ليسمح لهم لاحقاً بالتقدم لامتحان رسمي ينهي هذه المرحلة التعليمية.