يغادر الرئيس ميشال عون نهاية هذا الأسبوع القصر الجمهوري إلى منزله. يترك الجنرال القصر بهدوء لا يشبه ما حصل معه قبل أكثر من ثلاثين عاماً. يغادر بلا نار وبلا دماء. لكنّ الدموع ستكون حاضرة هذه المرة. الأمر لا يتعلق ببكاء محبطين تعرّض قائدهم لهزيمة عسكرية قاسية. بل هو بكاء الذين أصابهم الحزن جرّاء فشل المشروع الإصلاحي الذي كان ينشده الجنرال منذ توثّب لتولي السلطة نهاية ثمانينيات القرن الماضي. وهو بكاء المجموعة التي تكتشف، مرة جديدة، أن الخصوم هم أنفسهم. داخلياً، هم الفريق السياسي الذي شكّل القوى الأساسية لمن أدار البلاد منذ اندلاع الحرب الأهلية، والذي عاد وتسلّم السلطة بعد اتفاق الطائف، ومعهم حلف إقليمي نقص واحداً هذه المرة. سوريا اليوم ليست طرفاً في كسر الجنرال. لكنّ الولايات المتحدة وفرنسا وأوروبا والسعودية في أصل المواجهة معه، وهي كانت كذلك يوم اتفقت على إطاحته بعد إقرار اتفاق الطائف. وهؤلاء جميعاً هم أنفسهم الذين حاصروه بعد عودته عام 2005. ومن بقي معهم ناس آمنوا به ولا يزالون، ولو كانوا في حالة من الغضب الشديد الذي يلفّ كثيرين في هذه البلاد ممن آمنوا بأنه يمكن للجنرال، ومعه حليف هو حزب الله، القوة الأبرز في لبنان والأكثر حضوراً في الإقليم، على تحقيق الإصلاح.لكنّ الخارج من القصر سيجد نفسه أمام مَهمة تطابق ما كانت عليه الأمور يوم نُفي إلى باريس. صحيح أن عمره وقدراته لم يعودا كما كانا عليه قبل ثلاثة عقود. كما أن الصحيح أن قاعدته الشعبية تبدّلت كثيراً خلال السنوات التي تلت عودته إلى لبنان عام 2005. في ذلك الوقت، كان قسم كبير من المسيحيين يقفون إلى جانبه، وكان يقف معهم، ولو بصمت، قسم من المسلمين الذين ما كانوا يرغبون بالوصاية السورية على لبنان. حتى المقاومة التي كانت تبني نفسها بدراية، وواجهت مشكلة مع سوريا، لم تكن تشعر بأن الرجل عدو لئيم وجب قتاله، بل تصرفت معه على أنه جزء من الحرب الأهلية التي وجدت المقاومة فيها مقتل المقاومة ضد العدو. والشعور العميق بأن الجنرال ليس عدواً للمقاومة، كما شعوره هو بأن حزب الله لم يكن في قلب الفريق المقاتل ضده، هو ما سهّل التواصل ثم التفاهم بينهما بعد عام على انتقال لبنان إلى الوصاية الأميركية - السعودية - الغربية بعد إخراج سوريا بذريعة اغتيال رفيق الحريري.
قيل الكثير عن تحوّلات وتبدّلات في موقف الجنرال من المقاومة ومن سوريا. واتّهمه منافسون بأنه بدّل جلده، وأطلقوا العنان لسردية تقول إن ما يفعله مخالف للمسار التاريخي للمسيحيين، وحتى لفكرة لبنان الذي ولد على وقع الحروب العالمية. وصار البعض يبالغ في الكلام إلى حدود اعتبار تأييد مقاومة الاحتلال الإسرائيلي خيانة للعقل الجمعي للمسيحيين. كان في مقدمة خصومه أركان الجبهة اللبنانية، من الكتائب إلى القوات اللبنانية إلى المنظومة الاقتصادية والمالية والدينية التي تعمل لنيل رضا الغرب. وكان هؤلاء يصورون أي موقف داعم للمقاومة بأنه خيانة للخط التاريخي للمسيحية السياسية في لبنان. قال هؤلاء ما تثبته وقائع التواصل بين قيادات مسيحية وإسلامية كان لها دورها الكبير في لبنان، ممن كانت على تواصل مع أصحاب المشروع الصهيوني في منطقتنا. بعضهم تواصل مع المشروع من خلال الوصي البريطاني والفرنسي، وبعضهم تجاوز هذه الحدود وتواصل مباشرة مع مؤسّسي كيان الاحتلال. وهؤلاء هم أنفسهم الذين واجهوا كل الحركات والأحزاب والأفكار التي حملها علمانيون من اليساريين أو القوميين أو البعثيين أو الناصريين في سياق دفع لبنان ليكون جزءاً من الحضن العربي الأرحب.
اليوم، يغادر عون القصر الجمهوري وبيده إنجاز كبير يتعلق بالصراع مع العدو الإسرائيلي وبما يخصّ حقوق لبنان في ثرواته النفطية والغازية، وهو قبل أن يغادر مهّد الطريق لمفاوضات يفترض أن لا تكون صعبة مع سوريا وقبرص لحسم الحدود البحرية بما يحمي أيضاً مناطق لبنان الاقتصادية. لكنّ خصومه الذين ينكرون عليه هذا الإنجاز إنما يفعلون ليس فقط لقول بأن لا دور له ولا جميل له، بل لأن الجنرال أغاظهم في آخر عهده بأن رسّخ في الوعي العام فكرة أن الحقوق الثابتة للناس تحتاج إلى عناصر قوة وليس إلى خطابات فقط. وهو ثبّت معادلة أن المقاومة هي عنصر القوة المركزي اليوم، ليس في ردع العدو فقط، بل في حماية حقوق الناس، وفي منع انزلاق لبنان إلى حرب أهلية عبثية. وهنا تكمن الجريمة التي سيسعى خصوم الجنرال في لبنان والخارج لتدفيعه ثمنها ولو بعد حين.
لكنّ الوجه الآخر للمأساة يتعلق بالتركيبة اللبنانية البشعة، والتي يقول أركانها للجنرال، وهو يغادر، إنه بالغ في تقديره لقوته في مواجهة منظومة الفساد المسيطرة على الدولة وعلى الناس. وهذا الفريق كان يحفر للجنرال يومياً، حتى عندما وقع هو وتياره في أفخاخ المحاصصة وتورّطا في لعبة التوظيفات وطرح المشاريع من خلفية بدت طائفية، فلم يكن هذا يزعج أركان المنظمة إياها، بل جعلوا الحفرة أعمق بحيث لا يقدر على الخروج منها، وللقول لكن من يأتي بعده إن مجرد التفكير بتغيير جوهري لآلية إدارة البلد سيُواجه بأقسى مما حصل مع الجنرال. وهؤلاء كانوا يتكلون دوماً على أن الجنرال لن يقدر على استثمار علاقته بالمقاومة لتعديل الوقائع الداخلية. وفي هذه النقطة، سيبقى النقاش مفتوحاً حتى تصل المقاومة إلى معادلة تتيح لها المواءمة بين فعل التحرير وحماية السيادة وبين دعم حركة تغيير حقيقية تطيح بهذا النظام العفن. وهي عملية طويلة ومعقّدة تتطلب أن يحسم حزب الله موقفه من صيغة النظام الحالي ومن تعقيداته الطائفية والمذهبية.
خصوم عون اليوم في لبنان والعالم هم أنفسهم خصومه يوم نُفي إلى باريس وتحالفاته تعوّضه كل خسارة الخائبين


يغادر الجنرال إلى منزله وسط ضجيح سيتكفّل به الأنجاس في لبنان. وسنرى الكثير من الهرج والمرج الذي سيحصل برعاية من قتل آلاف اللبنانيين على كل مساحة لبنان، وبرعاية من سرق البلاد والعباد وقهرهم على مدى عقود طويلة، وبرعاية من يحترف الانتحار جيلاً بعد جيل.
لكنّ واقع الأمر يقول إن ما قاتل الجنرال لأجله لم يسقط بفعل خروجه من الحكم. وإذا كان هناك من يقول إن عون وحزبه ليسا على درجة من الأهلية تتيح تحقيق التغيير، فإن الواقعية والعلمية توجبان النظر إلى دور الجنرال من زاوية أنه لم يكن بمقدوره كسر قواعد اللعبة بسبب قوة خصومه. ولذلك، فإن على من يريد أن يخلفه في منصبه التثبّت من هذه الحقيقة قبل صعوده إلى القصر. أما أنصار الجنرال وتياره فليس أمامهم سوى التطلع إلى استراتيجية مختلفة جذرية، تقوم على فكرة أن ما يلبي مصالح قاعدتهم الاجتماعية لم يعد متاحاً في ظل هذا النظام الطائفي. بل يحتاج الأمر إلى نظرة مختلفة جذرية، تجعل من الممكن بناء تحالفات جديدة، توسع دائرة المشتركات بين أصحاب المصلحة في التغيير. أما الانتقال إلى صف المعارضة وفق قواعد اللعبة الحالية، فلن ينتج فعلاً يتجاوز ما قام به كل من عارض هذا النظام لتحسين سلوكه وليس لنسفه.
وبرغم كل الحقد الظاهر في كلام خصوم الجنرال، عرف الرجل كيف يدير نفسه، ولم يقبع في زاوية أو توقفت ساعته عند تاريخ مغادرته بعبدا قبل ثلاثة عقود، بل تطوّر وتصرّف بما يوجب التفاعل مع الوقائع اللبنانية على حقيقتها. وسيظل لبنان يذكره رجلاً طيباً حاول ما استطاع إليه سبيلاً!