تتولى أكثر من 10 شركات توزيع مياه صهاريج الخدمة المنزلية في بيروت. خزاناتها ممهورة بعبارة «مياه حلوة» مع رقم الهاتف. أبرزها: أبو الذهب، علاء الدين، رسلان، أبو الشوق، نعمة، الأسمر، مصطفى، زعيتر، فنيش، صقر، عليان... تطوف يومياً في شوارع المدينة وضواحيها، لتلبي خدمة يزداد الطلب عليها يوماً بعد يوم، بعدما غابت مياه الدولة هذا الصيف بحجة غلاء المحروقات وعدم توفر «الفريش دولار» لإجراء الصيانة اللازمة للإمدادات.تأتي هذه الصهاريج بالمياه من «النواعير» الموجودة في الحازمية وتحويطة فرن الشباك والدكوانة، علماً أن المياه غنية في المنطقة الممتدة من خط خلدة مروراً بالشويفات، الحازمية، فرن الشباك وصولاً إلى المرفأ. أما أبرز النواعير التي يلجأ إليها أصحاب الصهاريج فهي ناعورة مرهج، جوزيف، بيتر النداس، أمّ بشارة. وثمة نواعير في قلب الضاحية الجنوبية، في برج البراجنة ومحيط المطار، تعتمدها بعض الصهاريج رغم ملوحة مياهها. والنواعير عبارة عن آبار.

بدايات النواعير
يقول رئيس بلدية فرن الشباك ريمون سمعان إن «أراضي المنطقة كانت ذات طبيعة زراعية، حفر فيها الناس الآبار لريّ مزروعاتهم، وانتعش حفر الآبار عندما انقطعت مياه الدولة إبان الحرب الأهلية، كما عندما حصل فلتان في منح رخص الحفر. لاحقاً، صار الناس يبيعون أراضيهم وأبقوا على الآبار ليستفيدوا من بيع مياهها».
في السياق نفسه يقول «أبو الريش»، وهو عتيق في المصلحة ويشرف حالياً على مجموعة صهاريج لبيع المياه، إن «الاعتماد على السيترنات صار يزداد بفعل ازدياد السكان في بيروت، وازدياد الحاجة صيفاً بفعل شحّ مياه الدولة». ويذكر أبو الريش بعض النواعير الكبيرة التي كانت معتمدة من قبل، «مثل ناعورة الشيخ في صبرا بقدرة إنتاجية 9 إنش. وناعورة في المدينة الرياضية وأخرى في الأوزاعي، فضلاً عمّن حفروا الآبار قرب مبانيهم وباعوا الفائض للاستفادة». هذه الآبار «كلها مَلّحت»، ما دفع أصحاب الصهاريج إلى البحث عن مناطق أعلى، وتقديم مياه حلوة للبيوت. «فالناس يمكن أن تعيش بلا كهرباء، لكن لا يمكن أن تعيش بلا ماء».

زيارة لناعورتين
نذهب إلى ناعورتين من أصل نواعير كثيرة تقصدها الصهاريج يومياً. ما إن نقترب من الناعورة الأولى، في تحويطة فرن الشباك، حتى تغيب الطرقات المؤهلة بالاسفلت وتقلّ البيوت. هناك تكثر المساحات الفارغة وبعض البيوت المؤلفة من طبقة واحدة، المرفقة بمساحة مزروعة كأنك في الضيعة.
يملك هذه الناعورة رجل فضّل عدم الكشف عن اسمه. أكدّ أنه أنشأها بهدف زراعة أرضه، وأنّه لم يكن يبيع مياهها قبل الأزمة الاقتصادية «لكني اضطررت الآن لأن فاتورة الاشتراك تصل إلى حدود 60 مليون ليرة شهرياً، وبيع المياه يسدّد جزءاً من فاتورة الاشتراك ما يمكنّني من ريّ المزروعات».
يبيع الرجل لعدد محدد من أصحاب الصهاريج، ولمطاعم فحصت مياهه قبل أن تقرّر استخدامها «كثيرون نصحوني بأن أحفر أكثر، لكني رفضت. لست طماعاً ولا أريد مياهاً مالحة أو ملوّثة، فأنا بالنهاية أعتاش من الزراعة التي أسقيها بهذه المياه».
الناعورة الثانية التي قصدناها تقع في الحازمية، وهي لسيدة تزدحم عندها أغلب الصهاريج التي تغطي معظم مناطق الضاحية الجنوبية. وبينما تنتظر الصهاريج دورها، نسأل عاملاً في الناعورة أن يملأ لنا قنينة مياه لفحصها، فيستأذن السيدة التي ترفض بحزم وتقول «هذه المياه متقة وليست للشرب، إنما تستعمل للاستحمام».

أصحاب الصهاريج
يرى مالك أحد الصهاريج في إثارة موضوع الصهاريج اليوم «ضجة إعلامية فقط. لا جديد في الأمر، أجروا فحوصات للمياه أكثر من مئة مرة، وتبيّن أنها غير صالحة، ولم يقوموا بأي إجراء». رغم ذلك، يؤكد أن لا شيء يستدعي الخوف والقلق «إلنا عمر بهالمصلحة مش يوم واتنين».
يلفت الرجل إلى حالة القلق التي بدأ يلاحظها عند زبائنه، فيتحدّث عن اتصال تلقاه من أحد زبائنه «في الدولة» ليسأله عن المكان الذي يعبّئ منه الصهريج «أجبته، أنت زبوني منذ 20 سنة... صارلك شي!». ويذكر أنّ شخصاً آخر طلب منه أن يأتي له بنقلة مياه «متهماً صاحب السيترن الذي اعتاد التعامل معه بالتسبّب في بروز حبوب في وجهه، علماً أني وصاحب هذا الصهريج نعبّئ من المصدر ذاته». وهذا يعني برأيه أن «القصة صارت نفسية».
فُحصت المياه مئة مرة وكُشف تلوّثها، لكنّ أحداً لم يبادر إلى المعالجة


ويلفت إلى أن مصدر التلوّث قد لا يكون مصدر المياه: «اشتكى أحدهم من رائحة المياه التي نقلتها له، وفعلاً أثبت فحصها أنها ملوّثة، لكن تبيّن بعد المعاينة أن بركة المبنى التي أفرغنا فيها حمولة الصهريج هي مصدر التلوّث».
يجزم صاحب صهريج آخر بأنّ المياه التي يوزّعها آمنة للاستخدام المنزلي. ولكن «لا يمكن لأصحاب الصهاريج أن يحرسوا الآبار، فاليوم المياه نظيفة وغداً لا يعرف أحدهم ماذا يحدث، فقد يرمي أحدهم فيها شيئاً، ومن الممكن بسبب البنية التحتية المتهالكة أن تطوف مجاري الصرف الصحي، وهذا ما قد يحدث في الشتاء». صاحب هذا الصهريج يعبّئ من الدكوانة التي يقول إنها مياه ممتازة «لبنان كلو بياخذ منها من بابه لمحرابه وما حدا بيشكي».

غياب الرقابة
ترافق تبريرات أصحاب الصهاريج غياب الرقابة من قبل الوزارات المعنية والبلديات. وفي اتصال مع رئيس بلدية الحازمية جان الأسمر، قال إنهم كبلدية لم يجروا فحوصات للنواعير الموجودة في نطاقهم، «لكن يمكن أن نفعل ذلك قريباً». ولفت إلى إن أهالي الحازمية لا يشترون من هذه النواعير لأن مياه الدولة قلّما تغيب «أصلاً نبع الديشونية عنا. وفي حال انقطعت الأخيرة يشترون الماء من المنصورية ومن مناطق عالية لأن لديهم زرعاً، فيما مياه النواعير مشكو من ملوحتها وتتلف الزرع».
أما رئيس بلدية فرن الشباك فقد أشار إلى أن البلدية لم تجر فحوصات على النواعير «لأنها مصلحة غير قانونية»، لافتاً إلى أن الرقابة ليست من مسؤولية البلدية، وإنما وزارة الصحة. فيما «لا رقابة على شي ولا نضحك على حالنا، حتى مياه الديشونية أي مياه الدولة يقال إنها غير نظيفة».