الدولة الفرنسية تريد أن يموت المقاوم اللبناني والعربي جورج عبدالله في زنازينها. هذا هو التفسير الوحيد لإصرارها على بقائه في الأسر بعد 38 سنة على اعتقاله، رغم استيفائه الشروط المطلوبة للإفراج عنه وفقاً للقانون الفرنسي منذ 1999، وإفشالها لقرار محكمة الإفراج المشروط بإطلاقه في 2003، ورفضها المتكرر لجميع طلبات محاميه للإفراج عنه خلال أكثر من عقدين. كما تجاهلت أيضاً مطالبة الرئيس ميشال عون مراراً بإطلاق سراحه، على عكس من سبقه ممن تجاهلوا قضية هذا المناضل وأسقطوها من حسابات علاقاتهم بباريس.الشراسة المنقطعة النظير التي تبديها الإمبريالية الفرنسية الهرمة حيال قضية عبدالله لا مجال لمقارنتها بتعاملها مع أي من معتقلي التنظيمات التي لجأت للعنف المسلح على الأراضي الفرنسية في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم، فرنسية كانت أو أجنبية.
لا ريب في أن الولايات المتحدة والكيان الصهيوني ضغطا باستمرار على السلطات في هذا البلد لإبقاء من يتهمونه بالمسؤولية عن تصفية اثنين من عملاء استخباراتهما في 1982 قيد الاعتقال. لكن قرار هذه السلطات بالتجاوب المستمر مع هذه الضغوط هو الذي ينبغي التوقف عنده. ماذا لو توفي المقاوم اللبناني والعربي في السجون الفرنسية بعد مضي كل هذا الزمن وهو الذي يبلغ اليوم الواحدة والسبعين من العمر؟ الدولة الفرنسية هي المسؤولة عن حياته، وهي من سيتحمل تبعات أي مكروه قد يحصل له. في الحقيقة، الموقف الفرنسي الرسمي من عبدالله لا يرتبط فقط بالخضوع لضغوط أميركية وإسرائيلية، وهو ينجم عن تحولات في داخل النخب السياسية الحاكمة في هذا البلد، من سماتها الرئيسية تعاظم النفوذ الصهيوني في أوساطها لدرجة يمكن مقارنتها مع الحالة السائدة في أوساط النخب الحاكمة في الولايات المتحدة، ديموقراطية كانت أو جمهورية. قضية جورج عبدالله تكشف الكثير عن واقع السياسة الفرنسية اليوم، وعن الموقع المركزي الذي باتت تحتله الحركة الصهيونية في قلب منظومتها المسيطرة. هي مؤشر جديد، بين مؤشرات أخرى كثيرة، على أن إسرائيل لم تعد مجرد أداة للإمبريالية، بل أضحت، من خلال الحركة الصهيونية في بلدان الغرب، مكوناً عضوياً داخل بنية هذه الإمبريالية. من يسعى لمساواة مناهضة الصهيونية باللاسامية، وهي جرم على المستوى القانوني، كالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ويعتبر وفريقه إسرائيل نموذجاً يحتذى في «مكافحة الإرهاب»، وامتداداً حضارياً وسياسياً للغرب في معركته مع «الظلامية والتطرف»، وقطباً للتطور العلمي والتكنولوجي، سيفعل ما بوسعه لتعظيم الشراكة معها. هذه النظرة لإسرائيل، التي تتضمن قدراً كبيراً من التماهي الثقافي - الأيديولوجي معها، تعني عملياً تصنيف أعدائها أعداء لفرنسا، ويتضح ذلك في تعامل حكوماتها المتعاقبة مع جورج عبدالله.
قلق من الإحجام عن التصويت بحجّة النتيجة المحسومة


لم يتهم المقاوم اللبناني بقتل أي مواطن فرنسي. هو «أدين» أساساً بالمسؤولية عن عمليتي استهداف لعميل الاستخبارات العسكرية الأميركية، تشارلز راي، في 18 كانون الثاني 1982، وياكوف برسيمانتوف، مسؤول محطة الموساد في باريس، في 3 نيسان 1982، والذي سجل اسمه على جدار شُيّد تكريماً لقتلى هذا الجهاز في رامات هشارون في ضاحية تل أبيب. انتسب جورج عبدالله للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في أواسط السبعينيات، وكان من المؤيدين لتوجهات أحد مؤسسيها، الشهيد وديع حداد، حول ضرورة توسيع المواجهة مع العدو الصهيوني لتشمل استهداف مصالحه ومسؤوليه في بلدان الغرب الإمبريالي الداعمة له، وعدم حصرها في حدود فلسطين وحدها. بعد استشهاد حداد مسموماً في 1978، تأسست الفصائل الثورية المسلحة اللبنانية في 1981 لتمثل امتداداً لنهجه، وشنّت مجموعة من الهجمات في فرنسا ضد أهداف للعدو الصهيوني. مقولة عولمة الحرب ضد العدو أثارت نقاشاً واسعاً آنذاك في صفوف جيل التلاحم الفلسطيني - اللبناني، الذي انقسم بين داعم لها من جهة، وبين من رأى أن الأولوية هي لتركيز الجهود على ساحة الصراع الرئيسية في جنوب لبنان وفلسطين من جهة أخرى. لكن هذا الخلاف لم يحل دون إقرار أصحاب الرأي الثاني بالطبيعة النوعية لعمليات الفصائل، أي الضربات التي وجهتها إلى مسؤولين أمنيين أعداء، وحرصها على تجنب وقوع ضحايا مدنيين غربيين، ما قد يسيء إلى سمعة القضية التي تناضل لأجلها. تميز جورج عبدالله طوال سنوات اعتقاله بتمسكه بالمبادئ التي ناضل لأجلها، ورفضه الاعتذار عن أي من العمليات ضد العدو، وهو كان شرطاً لإفراج الدولة الفرنسية عنه، وبدفاعه الثابت عن المقاومة في فلسطين ولبنان، وعن قضايا الشعوب التي تكافح ضد الهيمنة الإمبريالية عبر العالم. هو يتعرض لذلك لعملية قتل بطيئة من قبل المنظومة الغربية-الصهيونية. قوى المقاومة في لبنان وفلسطين، وجميع الشرفاء والأحرار في العالم مدعوون لإنقاذ بطل من أبطالنا قابع في سجون الإمبريالية الهرمة، وإفهامها أن تعرضه لأي سوء لن يمر من دون عقاب.