يخترن شجر الزيتونِ، على الضفة الشرقية للبحر المتوسط، شواهد الوجود القديم. بعضه، أعتقُ من أعتقِ المعابد والهياكل الباقية، ومن روايات الخلق، كتلك الشجرات المعمّرة في شمال لبنان ونابلس وحلب.لآلاف السنين، قلّما خلت مائدةٌ في بلاد الشام من حبوب الزيتون المنقوع بالملح. ولو كانت الحبات وحيدةً، لصارت هي المائدة. أمّا رؤية الزيت الخضير ينسلّ من حجارة المعصرة، ففيه اشتهاء لأنهار زيتٍ، تنساب قرب جداول اللبن والعسل.
لكنّ حال الزيتون ليس رومنسيّاً إلى هذا الحدّ، وفي بلاده بيوتٌ وخيامٌ ومهاجع بلا سقوف، يحلم أهلها بحباتٍ قليلة ورغيفٍ ساخن، على صوت الأنين وكسر الخبز اليابس. وكم من عهد حبٍّ كتب السابقون، على خبزة وزيتونة.
كثيرةٌ هي الأعطاب التي أصابت الزيتون وتهدّده، زراعةً وثقافةً وإنتاجاً. تكفي محاولات العديد من المراجع العلميّة الغربية نزع الشّجرة من موئلها الأصلي، وصبغ ولادتها الأولى بهويّة موضعيّة في جزيرة كريت الجميلة في بحر إيطاليا، بديلاً عن برٍّ جيولوجي وإيكولوجي عميق، يبدأ من شاطئ سيناء ويصل حتى غابات سيبيريا.
هي نفسها، تلك المراجع ومراكز الأبحاث الكبرى، تتقاطع، بخلاف غاية العلوم الإنسانية، مع الشركات الكبرى و»حاجات السوق».
خضع العلم للسّوق، حين قرّر في ثمانينيات القرن الماضي، أن زيت الزيتون يؤذي القلب. لم يكن في بلاد الشركات الكبرى أو تحت سطوتها ما يكفي من الكروم للإنتاج التجاري، وكان موسم تجميع الثروات من زيوت البذور، الذرة ودوّار الشمس والصويا والنخيل. تكدّست بعدها الدولارات في البنوك، والدهون في شرايين نصف سكان الكوكب، وقُضمت نصف غابات الأرض. ثم استفاق العلم على فوائد الزيتون لأمراض القلب، بعدما صار تجارةً مربحة، لكن حصل الانقلاب الكبير في الغذاء والزراعة، وعزّ وصول الزيت إلى «العامّة»، في بلاد الزيتون أولاً.
في الكروم الناجية من التشويه، يلاحظ الترابط الزراعي بين «الأخوات الثلاث»، شجرة الزيتون وشجرة التين والكرمة، تُزرع معاً ويرتبط بعضُها ببعض ارتباطاً طبيعياً يؤمّن حماية وغذاءً في الكرم، وزاداً متكاملاً للشتاء، يُجمع ويُعالج في آخر الصيف ومنتصف الخريف.
لكن، يَدْهَم السوق مجدداً، حيث لا تُناسب الأساليب الفلاحيّة القديمة، عقليّة التجارة السريعة، ولا أن يكون الإنتاج مستقلاً وسياديّاً. في الكروم الجديدة، أشجار الزيتون وحيدة تقف بوجه مدّ الجفاف وذبابة الفاكهة والأمراض المتجدّدة، فلا تجد غير أكياس الأسمدة الكيميائية السامة تُفرغ تحت أجذاعها ومبيدات الشركات الكبرى تنهمر على غصونها وأوراقها أكثر من المطر.
استفاق العلم على فوائد الزيتون لأمراض القلب، بعدما صار تجارةً مربحة


أما تلك الأصيلة الصامدة، من النوع الصوري (نسبة إلى صور) أو النبالي (نسبة إلى نابلس)، فإن نجت من الظروف في الشام ولبنان، تتصيّدها في فلسطين مراكز الأبحاث الزراعية الإسرائيلية، فتدخل على أصولها التعديلات الجينيّة، وتطلق عليها أسماءً عبريّة وتبيعها وتتباهى بزيتها. حتى إذا فرغ المستوطنون الصهاينة من اقتلاع أشجار الزيتون الفلسطيني، حلّت أصناف «العلامة التجارية» العبريّة محلّها في الأرض، تماماً كالمستوطنات التي تنهش قرى الفلسطينيين.
ترك تبدّل أنماط الحياة أثراً كبيراً في زيت الزيتون. لطالما لعب الزيتون دورين أساسيين كمادة حافظة تطيل عمر المونة وتحفظ جودتها، ومصدراً رئيسياً للدهون في المطبخ الشرقي، الذي يستند إلى أطباق «القاطع» بشكل عام، وإلى استخدام لحم الماعز والأغنام بكميات قليلة وأوقات محددة من العام، قبل أن يصير اللحم التجاري متاحاً دائماً.
أما الاستعمالات الأخرى، فكلّها تعرّضت للاهتزاز. فقطعان المواشي إن وُجدت، لا تجد أمامها سوى أكياس العلف المستورد تسدّ رمق جوعها في أواخر الشتاء، بدل أغصان الزيتون المقلّم، وبات من الندرة أن يضيء الزيت في سراج وفتيلة، أو أن يجد الصابون البلدي مكاناً بين رفوف عبوات الصابون الصناعي.
هذا العام، أتى شحّ المطر وانقطاعه المبكر مع الحرارة الآخذة في الارتفاع، ازدهاراً كبيراً وحملاً وفيراً من الحبات، وشحّاً في إنتاج الزيت، مع تراجع كميات الرطوبة التي نالتها الشجرات من جذورها العميقة في التربة. لكنّ الكروم بقيت عصيّة على الآفات على عكس السنوات الأخيرة. وكأنّ يد الطبيعة الخفيّة، ترمّم ما هدّمه الجشع والجهل. قصة الزيتون، فصل من رواية هويّة ممزّقة.