ما خلّفته الأزمة الاقتصادية «كان محسوباً له»، يقول الدكتور ناجي الصغير، مدير مركز علاج سرطان الثدي في مركز نايف باسيل في الجامعة الأميركية في بيروت. فاليوم، يُترجم غياب القدرة المادية في ازدياد أعداد الحالات المصابة بالسرطان في مراحل متقدّمة من جهة، وفي عودة السرطان لدى الكثيرات من جهة ثانية. وإن كان من المبكر الحديث عن إحصاءٍ يوثّق هذه التحوّلات، إلا أن هذا ما يلحظه الأطباء في العيادات.
ارتفاع في الحالات المتقدّمة
على عكس ما كانت عليه الحال قبل الأزمة، يلاحظ أطباء الأورام زيادة في أعداد النساء المصابات بسرطان الثدي بمراحل متقدّمة. لم تحصل هذه الزيادات بلا سبب، بل نتيجة العجز عن القيام بالكشف المبكر لكلفته العالية من جهة، وغياب الحملات التي كانت تنتظرها النساء لإجراء الفحوص والصور بكلفة رمزية من جهةٍ ثانية.
برزت ظاهرة التخلي عن عمليات الترميم بسبب تكاليفها العالية (هيثم الموسوي)

اليوم، تُراوح كلفة الفحوص والصور في مرحلة الكشف المبكر «ما بين 60 و120 دولاراً»، يقول هاني نصار، رئيس جمعية باربرا نصار. قيمة تُقرّش بالليرة اللبنانية «كلّ يوم بسعر»، وإن كانت لا تقلّ عن خمسة ملايين ليرة لم تعد بمتناول الكثيرات. وقد أدى هذا الأمر إلى تراجع كبير في نسبة الكشف المبكر عن السرطان، بعدما كانت «نسبة النساء اللواتي كنّ يجرين هذا الفحص تُراوح ما بين 80 و90%»، بحسب الصغير، وبسبب هذا التعديل «بتنا نرى في العيادات نساء يأتين لأنهن شعرن بوجود كتلة ما». وهذا يعني «أننا بتنا أمام مراحل متقدّمة». ويعني أيضاً حتمية العلاج. وهنا، تكمن العقبة «في توفّر العلاج ومن ثم الوصول إليه»، بحسب الصغير. وثمة فارق بين التعبيرين، إذ إن توفّر العلاج «لا يعني أن الكثيرين قادرون على الحصول عليه بسبب الأكلاف».

تأجيل جراحة الترميم
في أولى تلك الأكلاف، تأتي العملية الجراحية التي تختلف كلفتها من مكانٍ إلى آخر، تبعاً لحسابات «الدرجة» التي يُصنّف ضمنها المستشفى، وأسعار المستلزمات الطبية التي أصبحت في غالبيتها خارج حلقة الدعم، وتُسعّر بالدولار الأميركي. ولا يتوقف الأمر عند حدود الجراحة وإنما يتضمن أيضاً ترميم الثدي، ما ينعكس على الكلفة التي تُراوح ما بين ألفين و8 آلاف دولار أميركي بحسب كلّ مستشفى. وغالباً ما تُقدّر كلفة الترميم بالنصف وفي بعض الأحيان أكثر من ذلك، لغلاء مستلزماتها. وبما أن ما تقدّمه الجهات الضامنة اليوم بالكاد يغطي بدل الإقامة في المستشفى، فقد أصبح مجمل نفقات هذه المرحلة يقع على عاتق المريض. وقد أدى هذا الأمر إلى اتخاذ بعض المريضات خياراً متطرّفاً يقضي بتأجيل الجراحة وهو ما يلحظه الأطباء اليوم، يقول الصغير. وإذ يشير الصغير إلى أن هذه النسبة لم تأخذ بعداً قاسياً بعد، إلا أن ثمة اتجاهاً بدأ يتّضح لدى الكثيرات «في تخليهن عن عمليات ترميم الثدي بسبب تكاليفها العالية إن كان من ناحية معدّات الترميم (prothese) أو لناحية أتعاب أطباء التجميل»، يتابع نصار.
الأزمة خلّفت ازدياد أعداد الحالات المصابة بالسرطان في مراحل متقدّمة


الأدوية: كلّ مدعوم مفقود
لا ينتهي مسار العلاج عند الجراحة، وإنما يُستكمل بخطوات أخرى تبعاً لمراحل تطوّر المرض. وفي الغالب، تُستتبع العملية الجراحية بالعلاجات الكيميائية التي تخضع لها المريضة في المستشفى. وصعوبة هذه المرحلة لا تتوقف عند حدود التكلفة الباهظة التي باتت تُحتسب بعشرات ملايين الليرات على كل جلسة، وإنما أيضاً في توفر تلك العلاجات، ما يفترض الحديث عن موضوع الدعم، إذ إن توفر الأدوية، ومنها أدوية علاج سرطان الثدي، مرهون بيد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. وفي الآونة الأخيرة، لم تعد تلك اليد مفتوحة، ما أدى إلى فقدان نسبة كبيرة من الأدوية في السوق. إلى ذلك، أدّت قرارات رفع الدعم العشوائية التي قامت بها وزارة الصحة العامة إلى نتيجتين اثنتين: أولاهما رفع الدعم عن بعض الأدوية الأساسية، ما أدى إلى ارتفاع أسعارها، وأُخراهما إبقاء الدعم على أدوية أخرى، ما أدى إلى فقدانها من السوق. وفي كلتا الحالتين، لم يعد الدواء بمتناول المرضى.
في الأدوية الخاصة بسرطان الثدي، تُقسّم العلاجات إلى نوعين: العلاجات التي تؤخذ في المستشفى ويقارب عددها الـ15 دواءً، والعلاجات التي تؤخذ في البيت وهي بحدود 10 أدوية. ويمكن الجزم أن ما يقرب من 80% من هذه الأدوية غير متوفر، بإجماع أطباء كثر.
فلنذكر على سبيل المثال دواء «gemzar» وهو علاج كيميائي رُفع عنه الدعم وبات سعره بالملايين، وقد يصل بحسب عياره إلى «10 ملايين ليرة»، بحسب نصار. وبسبب هذه الكلفة، لم يعد الكثيرون قادرين على شرائه، ولا البدائل عنه «لأن البديلين اللذين بقيا مدعوميْن هما مفقودان في السوق»، يقول نصار. وهذا ينطبق على علاجات أخرى نذكر منها «taxor» و«taxotere» و«carboplatine»… و«catcyla» المفقود من وزارة الصحة العامة منذ ستة أشهر.
أما بالنسبة إلى العلاجات الخاصة ومنها الأدوية التي تُعطى في المنزل، وغالبيتها من الحبوب، فقد باتت في معظمها غير متوفرة، ونذكر منها مثلاً «ibrance» و«kiskali» و«verzenio» وغيرها. أما ما هو متوفر، فبالكاد يكفي المرضى، «إما بيجي منو النص أو أقل من النص»، على ما تقول المصادر من مركز توزيع الأدوية في الكرنتينا.
أما النتيجة؟ فهي قيام الكثير من الأطباء بتعديل الوصفة الطبية «نضطر أحياناً إلى تغيير الدواء، وقد يكون أقلّ فعالية، إلا أنه لا مجالات مفتوحة أمامنا»، يقول الصغير. أما البدائل التي يلجأ إليها المريض، فهي «التقشّف» في تناول الأدوية «فبدلاً من أن تتناول المريضة مثلاً أربع حبات في اليوم تتناول اثنتين»، أو في الكثير من الأحيان استيراد الدواء من الخارج مع ما يحمله هذا الأمر من مخاطر «قد تُترجم في تزوير بعض الأدوية»، بحسب الصغير ونصار.
ثمة فئة ثالثة من العلاجات، وهي العلاجات الهرمونية والتي تؤخذ للوقاية من عودة السرطان. تشبه حال هذه العلاجات ما عداها، فإما مرفوع عنها الدعم وإما أنها مدعومة ومفقودة. ونذكر منها مثلاً «arimidex» وهو دواء رُفع عنه الدعم، فيما بدائله غير متوفرة مثل «victev» وغيره. وكذلك الأمر لدواء «femara» الذي ارتفع سعره، فيما الأنواع المتبقية مثل «lefftara» و«letrozol» غير متوفرة. وقس على ذلك.
وبسبب هذا الواقع، يلاحظ الصغير أن عدد من استعاد السرطان نشاطاً في أجسادهنّ قد ارتفع. وهنا يكمن الخوف، إذ يؤدي النقص في العلاجات إما إلى انتشار المرض بما يقلّل من إمكانية النجاة، أو يقلّص سنوات البقاء، وإما إلى عودة السرطان. فهل لا يزال الشك قائماً بأن ما يجري ليس إبادة جماعية؟