«إذا كانت أوروبا قد سجّلت ارتفاعاً في حالات القلق والاكتئاب بنسبة 30% جرّاء وباء كوفيد 19 وتداعياته، فيمكن تخيّل الأحوال النفسية في لبنان الذي عاش إلى جانب الوباء، مزيجاً من الأزمات المتفاقمة منذ بدء الانهيار المالي من تغيّر نمط الحياة رأساً على عقب، وفقدان أساسيات الحياة من غذاء ودواء وانعدام الأمان والأمن المعيشي مترافقاً مع تفلت أمني وغياب الدولة ومؤسساتها، مضافاً إلى أزمة لجوء ضاغطة. وجاء انفجار المرفأ في 4 آب 2020 ليزيد الواقع قتامة». هكذا يبدأ رئيس قسم الطب النفسي في الجامعة اللبنانية البروفيسور وديع نجا كلامه، آسفاً لعدم وجود أرقام أو مسح دقيق لواقع الأمراض النفسية في لبنان، بما أنّ آخر مسح وطني جرى عام 2006.تتفق رئيسة نقابة النفسانيين في لبنان الدكتورة ليلى عاقوري الديراني مع زميلها، لافتة إلى الحظر الاجتماعي الذي فرضه الوباء، مترافقاً مع تدهور الوضع الاقتصادي «أثّر سلبياً على العائلات التي يعاني بعض أفرادها من اضطرابات معينة، حيث أن القرب لم يسمح في تهدئتها، بل على العكس، فاقم الخلاف والعنف الأسري. كما أفقد الكثير من الأطفال والمراهقين مهارات التواصل الاجتماعي المباشر، وباتوا يواجهون صعوبات عديدة لدى العودة إلى الحياة الاجتماعية العادية».
أما الفئة الأكثر تأثراً بالأزمة، وفق الديراني، فهي فئة «ذوي الاحتياجات الإضافية المزمنة (من يعانون اضطراب فرط الحركة، اضطرابات تعلمية من مراهقين وراشدين...) هؤلاء جرى العمل عليهم كثيراً في أوقات سابقة (أيام الخير) من متابعة طبية دوائية وجلسات مساندة سلوكية وتقويمية وسواها. لكن تراجع الخدمات شكل عبئاً على صحتهم العقلية والنفسية وعلى محيطهم كذلك».

هجرة 50% من المجازين
من هذه الملاحظات يمكن الاستنتاج أن واقع الطب والعلاج النفسي في لبنان سيء. ففي وقت ارتفع فيه الطلب على الخدمات النفسية، ارتفعت كلفة زيارة الطبيب والمعالج وكلفة العلاج في المستشفى بشكل خيالي. وانقطعت كثير من الأدوية، والمتوفر منها غالي الثمن بعد رفع الدعم. والكثير من بدائل الأدوية الموجودة غير جيد. «أنت وحظك» بحسب نجا، الذي أشار إلى وجود مختبر أبحاث لفحص البديل الجنيريك قبل السماح له بالدخول إلى السوق. «لا أعلم إن كانت تجري الآن مثل هذه الفحوص، علماً أنه في أوروبا سُحبت الكثير من الأدوية البديلة المتداولة اليوم في لبنان». يُضاف إلى ذلك هجرة عدد كبير من الأطباء والمعالجين النفسانيين. ووفق الديراني فإن «50% من النفسانيين المجازين هاجروا، وحتى المجازين حديثاً يهاجرون. علماً أن عدد النفسانيين المسجلين في وزارة الصحة 866. وهذا ما يؤثر على التغطية الجغرافية للعلاجات وتدعيم القدرات».

هل تأقلمنا؟
في ظلّ هذا الواقع، هل يكون العلاج بالتأقلم؟
في النهاية الإنسان قادر على التأقلم مع أي ظرف مهما كان سيئاً، يقول نجا، لكن السؤال «ما هي الكلفة التي يدفعها مقابل تحقيق هذا التأقلم، إذ لا شيء بلا كلفة. وهنا الكلفة نفسية ومعنوية وجسدية». أما عن وجود أناس غير متأثرين نفسياً رغم وضع صعب يعانونه، فيلفت نجا إلى أنه «ليس شرطاً التعميم والقول إن كلّ اللبنانيين بؤساء ومصابون بالاكتئاب والعلل النفسية لأن الإنسان مكوّن من طبيعة وتطبّع. فالطبيعة قد تعطي إنساناً ما استعدادات جينيّة لأمراض عصبية قد تظهر في مرحلة معينة، وخصوصاً عندما تكون الظروف مؤاتية. أما إذا لم يكن هناك استعدادات جينيّة وكانت لدى الشخص القدرة على التعامل مع الأزمات، فسيمضي حياته بشكل طبيعي. والعكس صحيح أيضاً، فإذا لم يكن لديه استعداد جيني للمرض، ولكن طريقة عيشه وتفكيره وتطبّعه سيئة فاحتمال أن يمرض وارد أيضاً».
الإنسان قادر على التأقلم لكن السؤال هو عن الكلفة التي يدفعها لتحقيق هذا التأقلم


ما العمل؟
وبغض النظر عن الحل العام الذي يحتاج إلى إصلاحات على مستوى الدولة، يبقى البحث عما يساعد على الصعيد الفردي خصوصاً للمتأزمين نفسياً. تنصح الديراني في «أن يحدّد كل إنسان أولوياته بالورقة والقلم، ومحاولة إيجاد مساحة لإراحة أنفسنا كالابتعاد عن الأخبار السيئة، وأن نمنع أنفسنا من الحديث في الأوضاع السيئة طوال الوقت. وبدلاً من ذلك اقتراح أشياء مسلية غير مكلفة كالموسيقى ومشاهدة الأفلام والعشاء مع العائلة، رؤية الأصدقاء، والحديث إليهم عبر الهاتف، التأمل والتنفس العميق والاسترخاء…».
وتشير الديراني، التي ترأس نقابة النفسانيين، إلى أن النقابة تعمل مع البرنامج الوطني للصحة النفسية التابع لوزارة الصحة في متابعة المراكز والمستوصفات في كلّ المحافظات لتمكينها وتدريب النفسانيين ومتابعتهم. ومع وزارة التربية في متابعة المدارس الرسمية. وتقول إن «مؤتمر جمعية الطب النفسي الذي سيعقد في كانون الأول المقبل هدفه تطوير الآليات لتكون خدمات الطب والعلاج النفسي متوفرة لأنه حق». أما في ما يتعلق بتعرفة جلسات العلاج النفسي فتؤكد مسعى النقابة عبر لجنة المال تحديد تعرفة للجلسات، لأن الأمور اليوم غير مضبوطة. كما نسعى إلى وضع برامج تدريب مستمرّ لرفع مهارات النفسانيين المهنيين».