تقدم مواطنون أميركيون عام 2007 بشكوى جزائية امام محكمة نيويورك ضد حزب الله بسبب اصابتهم بصواريخ خلال عدوان تمّوز 2006. وخلصت الإجراءات القضائية الأميركية التي استمرت نحو 16 سنة الى ادانة الحزب غيابياً وتحديد تعويضات بملايين الدولارات. وفيما لم يعلّق حزب الله على الخبر، وهو أساساً لا يعلق على أخبار من هذا النوع ويتصرف على أساس انها لا تعنيه،
يتيح القانون الأميركي (القواعد الفيديرالية للإجراءات المدنية - القاعدة 55) صدور الاحكام الغيابية في حال عدم اعتراض المتهم أو عدم حضوره. وبحسب أصول الإجراءات القضائية، أمام المتهم 14 يوم عمل للاعتراض، أي ان المهلة تنتهي في 6 تشرين الأول الجاري.
قد يبدو هذا الاجراء عادلاً إذ انه يتيح للمتهم الدفاع عن نفسه ودحض التهم الموجهة اليه امام المحكمة. لكن الحقيقة أن السلطات القضائية الأميركية نسفت قرينة البراءة وأصدرت حكماً مسبقاً قبل انطلاق المحاكمة، من خلال تصنيف الحزب منظمة إرهابية. ورغم أن القاضي ستيفن تيسيون كان قد رد الدعوة لعدم الاختصاص، إلا أن القرار استؤنف في 28 شباط الفائت أمام القاضي براين كوغن الذي حكم بأن «تحديد الاختصاص في هذه القضية يعود للقاضي، حيث ان المتهم منظمة إرهابية اجنبية معروفة بشكل واسع بالتسبب بقتل الأبرياء» (مذكرة قضائية وأمر رقم 116، تاريخ 21 حزيران 2022). وبالتالي، بدت الإدانة واضحة وجاهزة وسبقت انعقاد المحكمة وعرض نتائج التحقيق والاستماع الى الشهود.

لا شيء يعوّض
قبل التطرق الى مضمون نص الحكم الأميركي، تنبغي الإشارة الى ان قيمة الأضرار المادية التي رتّبها العدوان الإسرائيلي ضد لبنان صيف 2006 (كما وردت في تقرير أوّلي أعده مجلس الإنماء والإعمار) تتجاوز 2,07 مليار دولار. كما تزيد قيمة الاضرار التي يتحمل مسؤوليتها العدو الإسرائيلي في لبنان بين 1948 و2006 على ثمانية مليارات دولار بحسب الخبير الاقتصادي كمال ديب، ناهيك عن عشرات آلاف الشهداء والجرحى والمعوقين والايتام والمهجرين والمشردين جراء الاجرام الإسرائيلي، ممن لا قيمة معهم لأي تعويض مادي.

إصابات عاطفية ونفسية ومالية
وورد في نص الحكم ان حاييم كابلان وزوجته ريفكا وأولادهما جرحوا بعد اصابتهم في 13 تموز 2006 بصاروخين، احدهما سقط قرب سيارة حاييم والثاني سقط في المنزل. كما ادعى افيشاي ريوفان وايليشيفا ارون انهما اصيبا في اليوم نفسه في مدينة صفد (المحتلة)، من دون أن الإشارة الى نوع الإصابات، بينما حدد النص ان حاييم كومر وزوجته نشامة اصيبا بـ«انهيار عصبي» استدعى نقلهما الى المستشفى. وادعت كارين اردستاين انها فقدت جنينها بسبب الـ«ستريس» الذي سببه صاروخ سقط قرب مكان اقامتها. وأصيب براين، زوج كارين، بصدمة بسبب الهجمات الصاروخية وفقد عمله بسبب انهيار السياحة جراء تلك الهجمات. أما الأولاد فأشار الحكم إلى انهم يعانون «كذلك» من صدمات «عاطفية ونفسية». لوري راببورت أصيبت بـ «ضرر عاطفي» بسبب إصابة ابنتها مارغاليت. وأصيبت شايا القريف «نفسياً وعاطفياً بعد ان سقط صاروخ اطلقه حزب الله على بعد امتار قليلة منها». وادعى يائير مور ان معرض الفنون الذي يملكه في صفد أصيب بصاروخ في 19 تموز 2006 ما أدى الى «اصابته بشدّة، عاطفياً ونفسياً ومالياً». وادعى ميكيمي ستاينبيرغ ان صاروخاً سقط في منزله في صفد يوم 11 آب 2006 بينما ادعى ثيودور ومورين غرينبرغ وجاريد سوتر ان شركاتهم المخصصة للسياحة تضررت بشكل كبير بسبب هجمات حزب الله الصاروخية.


القاضي ستيفن تيسيون: (حائز على جائزة بطل أميركي حقيقي True American Hero Award) منحته إياها وكالة مكافحة المخدرات الفدرالية


القاضي براين كوغن: كان قد حكم ضد البنك العربي عام 2015 بالإدانة بسبب علاقته بالمقاومة الفلسطينية


ووجدت المحكمة ان التعويض للمدعين بسبب الهجمات الإرهابية التي تعرضوا لها يشمل التعويض المالي والاقتصادي و«رواتبهم التي فقدوها» بسبب الحرب. واللافت ان المحكمة اعتمدت تقارير وأحكاماً سابقة صادرة بحق كوريا الشمالية وأفغانستان وايران في قضايا مشابهة لتحديد حجم التعويضات المالية.
بعد سرد المزاعم والادعاءات وردت الجملة التالية في نص الحكم: «ان حزب الله، بمجرّد تخلفه عن الحضور، اعترف بأن هذه الادعاءات صحيحة». لكن كيف ذلك؟
ان عدم حضور حزب الله وعدم مشاركته في الإجراءات القضائية الأميركية يأتي بسبب عدم الاقتناع بأن القضاء الأميركي عادل ومنصف ومستقل. كيف لا وقد صدرت الإدانة قبل انطلاق المحاكمة؟ أما الإقرار بالاعتراف بسبب عدم الحضور فهو مخالف لأبسط الحقوق الإنسانية وأصول المحاكمات العادلة.

قوانين في خدمة التصنيف
يشدد الحكم على ان الحكومة الأميركية كانت قد صنفت حزب الله منظمة إرهابية منذ عام 1995 بسبب ضلوعه المزعوم في «لائحة طويلة» من الهجمات الارهابية. ويعني ذلك ان هذا التصنيف سبق صدور قانون «مكافحة الإرهاب» (1997). وأضاف ان «هدف حزب الله هو تدمير دولة إسرائيل وقتل او تهجير سكانها اليهود وتنفيذ تطهير عرقي في دولة إسرائيل» (ethnically cleanse the territory of the state of Israel). علماً ان المسؤولين في حزب الله يكررون بأنهم يستهدفون الصهاينة لا اليهود. وكان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله قد توجه الى الإسرائيليين واليهود خلال احياء مراسم عاشوراء عام 2017 قائلاً: «انا اليوم، في يوم العاشر، اريد أن اوجّه كلاماً واضحاً للاسرائيليين ولليهود في فلسطين المحتلة وفي العالم. أقول لهم نحن في المقاومة منذ البداية قلنا ان معركتنا هي مع الغزاة الصهاينة المحتلين لأرض فلسطين ولأراضينا العربية وليست مع اليهود» (خطاب العاشر 1-10-2017)



هامش تحرك الاميركيين
الحكم الذي لن تتجاوز قيمته الحبر الذي طُبع به والاستغلال الإعلامي الذي حظي به، يتيح للسلطات الاميركية هامشاً أوسع للتحرك ضد حزب الله عبر، مثلاً، استخدامه ضد اشخاص يتهمهم الأميركيون بدعم الحزب ومساندته. اذ يرد في قانون مكافحة الإرهاب الأميركي (1997) «يمكن تأكيد المسؤولية تجاه أي شخص يساعد ويحرض، من خلال تقديم مساعدة كبيرة عن عمد، أو يتآمر مع الشخص الذي ارتكب مثل هذا العمل من أعمال الإرهاب الدولي». وبالتالي، يمكن اعتبار كل من أيّد المقاومة عام 2006 ودعم مواجهتها للغزاة الصهاينة بأي شكل من الاشكال، وكافح هجومها العسكري الهمجي على المدنيين وخصوصاً الأطفال والنساء وسيارات الإسعاف والمستشفيات ومراكز الأمم المتحدة، متآمراً مع «الإرهاب الدولي».
يتيح القانون الأميركي صدور الاحكام الغيابية في حال عدم اعتراض المتهم أو عدم حضوره، وأمام المتهم 14 يوم عمل للاعتراض


كما يمكن ان تستند السلطات الأميركية الى الفقرة 2339 من قانون مكافحة الإرهاب التي تجرّم «إيواء أو إخفاء الإرهابيين». حيث يرد فيها تجريم «من يؤوي أو يخفي أي شخص يعرفه، أو لديه أسباب معقولة للاعتقاد انه ارتكب أو على وشك ارتكاب جريمة بموجب القسم 2332 ب (المتعلق بأعمال الإرهاب التي تتجاوز الحدود الوطنية)». علماً ان من يصنفهم القانون الأميركي إرهابيين في لبنان ليسوا هاربين او مخفيين ولا يحتاجون لإيواء من أحد، بل هم نواب منتخبون ووزراء في الحكومات ومسؤولون في الدولة التي تقدم لها سفيرة الولايات المتحدة في لبنان أوراق اعتمادها.

اهمال القانون الدولي الانساني
بداية، فإن أساس الدعوة القضائية هو انتهاك قانون أميركي لـ«مكافحة الإرهاب» (18 الفقرة 2331-2339) الذي جاء فيه انه «يجوز لأي مواطن أميركي مصاب في شخصه أو ممتلكاته أو عمله بسبب عمل من أعمال الإرهاب الدولي، أو ممتلكاته، أو الناجين، أو الورثة، رفع دعوى قضائية ضده في أي محكمة محلية مناسبة في الولايات المتحدة، ويمكن أن يسترد ثلاثة أضعاف الأضرار التي تكبّدها وتكلفة الدعوى، بما في ذلك أتعاب المحاماة» (الفقرة 2333).
وأشار نص الحكم الى ان كل المدعين أكدوا للمحكمة انهم تعرّضوا لإصابات في شخصهم أو ممتلكاتهم أو عملهم بسبب هجمات حزب الله الصاروخية بين 12 تموز و14 آب 2006. وورد في الحكم ان «حزب الله اطلق آلاف الصواريخ على مدنيين في شمال إسرائيل» خلال هذه الفترة الزمنية.
لكن الحكم نفسه، كما سائر المذكرات والمستندات في الملف القضائي، لا يشير الى القانوني الدولي الإنساني علماً انه القانون الواجب اعتماده لإصدار الاحكام المتعلقة بالجرائم المرتكبة اثناء الحروب. ولم يأت ذلك صدفة أو سهواً، بل تعمدته السلطة القضائية الأميركية باعتبار أن اطلاق حزب الله الصواريخ «عمل من اعمال الحرب» (act of war) يمنع ملاحقته بموجب قانون مكافحة الإرهاب الاميركي.
لكن محكمة نيويورك لم تتجنب التطرق الى معاهدات جنيف فقط لهذا السبب، بل لأن تلك المعاهدات (وهي أربع وتشكل مع البروتوكولات الإضافية أساس القانون الدولي الإنساني) يمكن ان تجرّم العدو الإسرائيلي، خصوصاً لناحية تجاوزه مبدأ التناسبية (proportionality) خلال الحرب، وبسبب استهداف جيش العدو الإسرائيلي المستشفيات وسيارات الإسعاف والمنشآت المدنية الحيوية ومراكز تابعة للأمم المتحدة في لبنان.