«افتحوا الحدائق العامة فهي المساحات الأكثر أماناً»، عنوان العريضة التي وقّعتها 41 جمعية أهلية سياسية وبيئية، العام الماضي، متوجّهة بها إلى كلّ من «بلدية بيروت» و«محافظة بيروت» وأمانة سرّ الحكومة اللبنانية، للدعوة إلى إعادة فتح هذه المساحات الخضراء أمام الناس. نداء أعيد التذكير به الشهر الماضي، للضغط أكثر على المؤسسات الرسمية، لمعاودة فتح الحدائق بعد الإقفال العام الذي فرضته جائحة كورونا قبل عامين، والأزمة الاقتصادية الخانقة التي تستوجب فتح المساحات العامة كمتنفّس للناس بعد عجزهم عن تحمّل تكاليف الأماكن الخاصة. تفيد دراسة ميدانية نشرتها مجلة «أشغال عامة» في تموز الفائت، بأن 42% من 19 حديقة في بيروت، كانت مقفلة كلياً (بحث ميداني أُجرِي في كانون الثاني الماضي)، وأن 14 منها لا حرّاس فيها، و6 حدائق تعاني من مشكلة النظافة، إلى جانب 4 حدائق خالية من المستوعبات، و9 منها لا تحتوي على الغطاء النباتي، عدا خلوّ العديد من هذه الحدائق من المقاعد. واقع يدلّ على طريقة تعامل الدولة مع المساحات الخضراء المفتوحة في العاصمة، في وقت يعتقد فيه كثيرون بأن هذه الحدائق ليست حقاً عاماً للجميع، وبالتالي يتم تجاهل المطالبة بصيانتها.
لطالما شكّلت الحدائق، واحدة من أبرز المساحات العامة المجانية، التي تسمح بالتقاء الناس والتزاوج الاجتماعي بين الطبقات. وهذا ما يطرح السؤال عن مفهوم الحديقة العامة في المدينة، خاصة في بلد مثل لبنان: متنوّع الطبقات والأطياف الطائفية من جهة، وبعيد عن المخططات العامة والتشريعات القانونية من جهة ثانية، ما سمح بقضم المساحات الخضراء لصالح المنفعة الاستثمارية العقارية.

(هيثم الموسوي)

ففي دراسة للباحثة ناديا كاريزات من جامعة «ميشيغين» الأميركية، تحت عنوان: «قصة الأماكن العامة في بيروت وجغرافية القوة في بيروت» (2019)، تلفت إلى ارتفاع المساهمات العقارية في بيروت من 13% في عام 1973، إلى 21% عام 2014. وتؤكد العمل على استهداف الأماكن العامة، منذ فترة الحرب الأهلية، وعلى تشريع قوانين تبيح الاستثمار العقاري فيها، لتحلّ هيمنة الأفراد على التعددية، ويرتفع منسوب الانقسام الطائفي، ويضطرّ المرء إلى تحمّل التكاليف المادية لإمكانية الوصول إلى هذه الأماكن.
«اختراع نخبوي»
تاريخياً، يعيدنا الباحث في علم الاجتماع رائد شرف، إلى مفهوم المساحات العامة، وخاصة الحدائق، بصفتها أماكنَ للترفيه، و«طبيعة منظّمة» من قبل الإنسان. ويلفت شرف إلى تصنيف هذه الحدائق ضمن «الاختراع النخبوي» في بداياته، قبل تحوّله إلى حاجة مدينية مع تطوّر المدن في الـ200 عام الماضية. يؤكد شرف على اختزال هذه الحدائق لسيطرة الطبقة الحاكمة، في القصور الأوروبية. ففي بريطانيا، على سبيل المثال، شُيّدت أولى الحدائق على حساب الفلاحين وأراضيهم ومشاعاتهم المصادرة، في مرحلة تطوّر «الزراعة الرأسمالية» في ذلك البلد. الثورة الفرنسية (1789) وتأثيرها «الديمقراطي» كما يقول، غيّرا في هذه المفاهيم، وأحدثا تحوّلات استوجبت من الطبقات الحاكمة مراعاة الفئات الشعبية. فأضحت الحدائق مصدراً لـ«إبهار الطبقات الأكثر فقراً»، على غرار تشييد المباني الحكومية العملاقة والواجهات المزيّنة.
أما في لبنان، فلم تجد الطبقات المسيطرة على الحكم «عن طريق دعم عسكري خارجي»، بحسب شرف، نفسها في موقف يجبرها على«إبهار» فئات شعبية دنيا، أي خارج علاقات «العقد الزبائني المادية»، ما أسهم في غياب السياسة الرسمية الهندسية الموحّدة للمباني وللمساحات بشكل عام. وانسحبت هذه الصيغة المجتمعية على الأماكن العامة، والتي صُنّفت ضمن أمور الترف، فاعتبرها اللبنانيون ثانوية إذا ما قيست بالمطالب الاجتماعية والأمنية.
باختصار، يضع شرف كل ما وصلنا إليه اليوم أيضاً ضمن إطار «عقد طبقية» لدى اللبنانيين، خاصة عند الطبقة السياسية التي شيّدت الدارات الفخمة للتمايز عن الطبقات الدنيا. عقد تظهّرت في استبدال المساحات العامة بالمولات، وأضيف إليها التخطيط الطرقي الذي كرّس الانقسام الطائفي وعزل المناطق، كما حال أوتوستراد الضاحية على سبيل المثال الذي عزل هذه المنطقة عن باقي الأحياء وألغى بالتالي متنفسها الاقتصادي، أو كحال جادة بشارة الخوري التي شُيّدت بعد عام 1958، والتي أظهرت فصل المناطق طائفياً بعضها عن بعض.
الكورنيش البحري بديلاً؟
بدورها تشرح طالبة الدكتوراه في «معهد العلوم السياسية» في باريس، بترا سماحة، الانطباعات الشعبية عن مفهوم الحديقة العامة في لبنان، والتي تتوزّع، تبعاً لبحث ميداني أجرته، بين إجراءات قمعية للسلطات المحلية بإقفالها «حفاظاً» عليها واعتبار الناس غير مخوّلين لحمايتها، وبين وصمها شعبياً بضمّ شرائح اجتماعية لا تتناسب مع «أخلاقيات» الحيّ المجاور. سماحة التي تضع أطروحتها عن المساحات العامة في لبنان، أشارت إلى اهتمام الجمعيات الأهلية بالحدائق وممارسة الضغط على هذه السلطات لإعادة فتحها، وحصر النقاش بين هذه الجمعيات وبين الخبراء فقط، بعيداً عن أهل الحيّ نفسه الذين نأوا بأنفسهم معبّرين عن نوع من «الهزيمة».
يُحصر النقاش حول الحدائق بين الجمعيات وبين الخبراء بعيداً عن أهل الحيّ


تاريخياً، تقول سماحة، لعب عامل الاستثمار دوراً حاسماً في استبعاد إيلاء الاهتمام بالحدائق العامة في لبنان. فقد طغى طيلة الثلاثين عاماً الماضية تراكم الرساميل، والاستثمار الذي ينفق فقط ولا ينتج، وسط مضاربات عقارية عالية، عدا سرقة المشاعات وتشكيل خطر على الحيّز العام وعلى مستقبل الأجيال القادمة، إضافة إلى إقرار قوانين تخدم المصالح المالية. لكن، حتى مع الالتفات إلى المساحات العامة في لبنان، فإن الحديقة لم تشكل مكاناً لالتقاء الناس، فاستُبدلت تبعاً لسماحة، بالكورنيش البحري، المكان الوحيد المطلّ على البحر، وكـ«آخر ملاذ»، للبنانيين والمقيمين، إذ بحسب الدراسات يتبيّن أن الناس يفضلون الكورنيش على الحديقة، الذي يستقطب الروّاد «للتفرّج على بعضهم»، ويُستخدم كمكان عام للاستعمال الخاص عبر ممارسات اجتماعية يومية، كوضع كرسيّ على الرصيف، واحتساء القهوة، في نوع من إعلان «الانهزامية» و«التأقلم مع الواقع».
وعن إمكانية جمع الحديقة للطبقات الاجتماعية، تلفت سماحة الى أن الشرخ الاجتماعي كان موجوداً قبل الأزمة الاقتصادية الحالية، مع إبقاء النظرة السلبية تجاه الحديقة العامة، إذ لم تستطع الأخيرة أن تلعب دوراً مركزياً، مقدّمة حديقة طرابلس مثالاً. فالحديقة التي تتمتّع بستة أبواب، تحوّلت إلى ممرّ للعديد من الزائرين «يمكث فيها الزائرون أوقاتاً قليلة، ليعبروا من خلالها إلى أماكن متفرّقة».