بينما الداخل اللبناني يتلقّى جرعات بطيئة مدروسة ومحسوبة من الإيجابية، بالكلام عن قرب إعادة إصدار مراسيم الحكومة المستقيلة لإضفاء شرعية دستورية كاملة عليها في المرحلة المقبلة، وفي الوقت نفسه تأكيد قرب الاتفاق على الترسيم البحري مع إسرائيل، أوحى بيان وزراء الخارجية الأميركي والفرنسي والسعودي بأنه يدفع في وجهة مُحيِّرة: مطمئنة لحلفاء هذا الفريق، ومقلقة للخصوم.المبرر الفعلي للحكومة الجديدة تنظيم مرحلة الفراغ الناشئة بعد 31 تشرين الأول عند انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون دونما انتخاب خلف له. تالياً، من خلالها، تفادي فوضى محتملة. جزم ذلك سلفاً بوقوع شغور رئاسي لا أحد قادر على التكهّن بزمنه، وبتخويل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي ملء الفراغ وإمراره بلا صعوبات ومفاجآت. بيد أن توقيت بيان الوزراء الثلاثة، ناهيك بمضمونه المهمّ، دلّ على مقاربة مختلفة لما بعد نهاية الولاية. دلّ على ما يقتضي أن يحصل لتجنب المرحلة الغامضة المقبلة، كأنه يعاكس تسليم اللبنانيين بالفراغ، باستعجال انتخاب الرئيس الموحِّد للبنانيين في الموعد الدستوري. أظهر البيان الثلاثي نفسه فوق الخلافات الداخلية بتجنبه ذكر حزب الله أو النزاعات الوطنية والانقسامات، قاصراً اهتمامه على عنوان رئيسي هو الاستحقاق الرئاسي، تحته مرّر التركيز على الإصلاحات واتفاق الطائف والتذكير بالقرارات الدولية.
مع ذلك، من المبكر التعويل على تداعيات البيان، إيجابية أو سلبية، في الداخل اللبناني قبل التحقق من ردود فعل المعني بها، وهو الطرف الذي لم يأت البيان على ذكره، العارف أنه اللاعب الرئيسي في مجمل ما يدور في السلطات اللبنانية وخارجها:
أول ردود الفعل موقف حزب الله الذي لم يفصح بعد، مباشرة أو مداورة، عن رأيه في البيان الثلاثي. حسابات الحزب وحلفائه، من بينهم رئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر، بعيداً من المواقف المعلنة، أن المرحلة المقبلة، في المهلة الدستورية وبعدها، غير مؤاتية له كي يتمكن من إيصال الرئيس الذي يطمئن إليه. لذا مجرد الكلام عن رئيس يوحّد اللبنانيين لا يفهمه حزب الله سوى أنه رئيس بمواصفات مناقضة للتي يريدها هو في مرشحه. رئيس يوحِّد اللبنانيين، في مفهوم الدول الثلاث الموقّعة على البيان، ليس سوى الشخصية المناوئة لحزب الله. أقرب ما تكون الى تجرّؤ على حصته في الاستحقاق الرئاسي، والتأكيد على أن تجربة عون لن تتكرر بعد اليوم.
بعد البيان الثلاثي شغور رئاسي بارد أم ساخن؟


لأنه، قبل البيان الثلاثي وبعد صدوره، متيقّن من فقدانه قبضته على البرلمان لانتخاب مرشحه، لا خيار أمام حزب الله سوى المعادلة المثالية التي يدعمها في الوقت الحاضر ويُعدّ لها وتوشك أن تبصر النور: حكومة يرضى الأفرقاء بها جميعاً تستدرك الفوضى في مرحلة الشغور. ليس لها ولا لرئيسها أن يكونا معنيين بانتخاب الرئيس ولا اختصاص أو دور لكليهما في الانتخاب حتى، مقصورة على أن تكون الظهير الآمن للمفاوض الفعلي في الاستحقاق الذي هو حزب الله. أما انتخاب رئيس جديد فله حسابات مختلفة مرتبطة بتغيير الظروف والفرص.
ثاني ردود الفعل هو ما لم يصر بعد الى التأكد منه، مرتبط بالتساؤل الآتي: هل مهّدت فرنسا للبيان بمفاتحة إيران بتسوية على انتخابات الرئاسة اللبنانية؟
تملك باريس دون سواها من بين الشريكين الآخرين امتياز التحدث المتواصل مع إيران. ذلك يحتم الظن أن تكون قد أثارت مع طهران ـ إذا كان المطلوب فعلاً بحسب البيان إعادة تثبيت الاستقرار اللبناني ـ الوصول الى تفاهم معها على إنجاز الاستحقاق. إذذاك تكمن أهمية البيان والمسار الذي سيسلكه. من دون اقتران البيان الثلاثي بموافقة إيرانية مسبقة، يصبح لتداعياته مسار مختلف. الواضح أن المقصود منه الحؤول دون ولوج الشغور بانتخاب الرئيس في المهلة الدستورية. بيد أن الأمر يصبح مستعصياً إذا وجد حزب الله ـ بعد إيران ـ أنه في المقلب المعاكس منه. ذلك ما سيدفع الى الاعتقاد بأن الداخل اللبناني سيكون أمام أحد خيارين: شغور بارد بمواصفات حزب الله، أو شغور ساخن بمواصفات البيان الثلاثي الذي سيدفع الى المواجهة مع حزب الله على الاستحقاق المقبل.
ثالث ردود فعل هو ما يمكن أن تدلي به إيران حيال بيان الدول الثلاث. في ما تضمّنه، بطريقة مشابهة لمخاطبة سوريا في لبنان عشية صدور القرار 1559 عام 2004 وتحذيرها من التدخل في انتخابات الرئاسة عامذاك، فإن المرام الحالي هو إخطار إيران أن لا دور لها في انتخابات الرئاسة اللبنانية. المغزى الحقيقي لهذا الموقف أنها أقرب ما تكون مطرودة من أي دور لها في المرحلة المقبلة في لبنان.
مع أنه موقف مبالغ به الى حدّ كبير في تقليل أهمية تأثيرها ونفوذها المتحكّم بفائض القوة في الداخل اللبناني، إلا أن المعلوم في المقابل أن الدول الثلاث الموقّعة على البيان لا تملك إجراء انتخابات رئاسية في لبنان، ولا فرض رئيس، بمفردها. لها أن تعطّل، شأن الفيتو الذي تملكه إيران وحزب الله في تعطيل جلسات الانتخاب. مع أن حزب الله، عشيّة انتخاب عون رئيساً عام 2016، كان يملك الغالبية النيابية، أخفق طوال سنتين ونصف سنة في إيصاله الى قصر بعبدا، الى أن انضمّ إليه الرئيس سعد الحريري. الآن، أمست مهمته أكثر صعوبة من دون أن يملك الأكثرية المطلقة حتى، ودونما استنجاده بحلفاء الرئيس نبيه برّي.