الاختلاف حول القضية المركزية، فلسطين، وحده يمكن أن يكون سبباً للخلاف. كل ما تحت هذا السقف مقبول، ولا خلاف مع الاختلاف حوله. هذه هي القاعدة الأساسية للحديث عن أهمية الاختلاف في حياتنا، ومساهمته في تطوير شخصية الفرد بما ينعكس على تطور المجتمع عموماً.
فإذا كان الاختلاف عقائدياً أو إيديولوجياً أو طبقياً أو جنسياً أو مناطقياً، يمكن التعايش معه مع التزام قواعد قبول الآخر واحترامه، واعتبار الإختلاف حقاً طبيعياً لصاحبه وقيمة مضافة الى حياتنا.
نُشرت دراسات وأبحاث عدة عن أهمية الاختلاف أجمعت على أن المجموعات المتنوّعة إجتماعياً أكثر قدرة على الابتكار من تلك المتجانسة. والمجتمع اللبناني نموذج عن ذلك الاختلاف من خلال تنوّعه الفكري والعقائدي ضمن محيطه العربي، ما أكسبه مكانةً متميّزة.
لكنّ هذا النموذج اللبناني للاختلاف مرّ بمراحل متعددة جعلت منه سبباً للخلاف حيناً وللازدهار والتقدّم أحياناً أخرى.
قبول ثقافة الاختلاف ليست أمراً يسهل التعامل معه. فهي ثقافة تتطلّب أعلى درجات الحسّ الانساني لدى الفرد الذي يتربّى على قبول الآخر مهما كانت درجة الاختلاف معه. فكل فرد له كامل الحق بالحياة والعمل والتعلم والتنقل وحرية المعتقد والعيش في أي مكان ضمن حدود احترام القوانين.


ووفقاً للأسس التي نتربّى عليها وتعزّزها الثقافة المجتمعية، نتقبل الاختلاف ونعتبره مصدر غنى للشخصية، أو نرفضه ونواجهه باعتباره عدواً لأفكارنا وقناعاتنا.
هذه الحقوق الانسانية العامة قد لا تترجمها النصوص القانونية التي تتشكّل منها الانظمة، أو قد تلحظها من دون أن تطبّقها عملياً، كما هي حال الدستور اللبناني الذي يتحدّث في مقدمته عن الإلتزام بميثاق الاعلان العالمي لحقوق الانسان واحترام مبدأ المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، ثم يعود ليكرّس في مواده المحاصصة الطائفية التي تعزّز الخلاف نتيجة الاختلاف، وتعطي للطوائف حقوقاً تختلف بين طائفة وأخرى، كما تعطيها الحق في التعليم، وما ينتج عن هذا الحق من تنشئة تختلف بين جماعة وأخرى كما في أحوالها الشخصية أيضاً، حيث تلعب الدور الأكبر في تحويل الاختلاف الى خلاف.
ولا يكفي أن تتضمّن النصوص قواعد ومبادئ إنسانية متقدمة من دون ترجمتها الى ممارسات وأفعال وتنشئة مواطنية تجعل من الاختلاف غنى وتطوراً وازدهاراً.
كل فرد في المجتمع هو نتاج مجموعة من القواعد والمبادئ والممارسات يكتسبها بالتربية العائلية أولاً، ويعزّزها ويطوّرها بعد انخراطه في المجتمع وتطبيق ما تربّى عليه. فما يكتسبه الطفل في سنوات العمر الاولى كفيل بتشكيل الشخصية بشكل كبير.
لذلك، فإن تربية اطفالنا على احترام الاختلاف الآخر وتقبّله وإحترام حدود حريتنا تجعل منهم شباباً اكثر إنفتاحاً وتطوراً، وتبدّد كل الحواجز الوهمية التي تنسج بين الأفراد والجامعات والمناطق والجنسيات، وتجعل القواعد الانسانية التي خلقنا الله فيها متساوين الاساس المتين لبناء كل مجتمع.

نموذج \ حالة واقعية
نوال وأحمد نموذج لعلاقة أثمرت حياة وحباً وشراكة على أسس متينة وصلبة رغم الاختلاف الفكري والطبقي بينهما.
في سبعينيات القرن الماضي، أغرم مدرس شيوعي شاب فقير بابنة مختار القرية المتدين وصاحب المال والنفوذ. ارتبطا بعد سبع سنوات من الكفاح لإقناع العائلتين بهذا الارتباط الخارج عن المألوف حينها، والذي يحمل كل أنواع التحدي في زمن صراع الايديولوجيات والمتاريس الطائفية والفكرية.
أحمد الشيوعي لم يحرّض نوال المتدينة على بيئتها ولم يقلّل يوما من إحترامها. وفي المقابل، لم تتنازل نوال يوماً عن حبها للشيوعي الفقير رغم كل المعوقات التي وضعت في طريقها، فجاهدت سبع سنوات مع نقاش واع مع أهلها وتحمّل كامل لمسؤولية اختيارها وإصرار لم تكسره كل المغريات.
قدّم هذا الاختلاف نموذجاً إستثنائياً في نسج علاقة قائمة على الاحترام المتبادل لقناعات كل طرف. فلم يطلب الشاب الشيوعي حبيبته المتدينة بأن تتخلى يوما عن إلتزامها ولم يسخر يوماً من معتقداتها، وفي المقابل لم تتذمّر الحبيبة المتدينة من عدم إلتزام زوجها بالشكليات الدينية التي تربّت عليها لأن قواعدهم الانسانية واحدة ولم يختلفا يوما على أي منها. فكلاهما يحملان قناعات فكرية قاعدتها الاساسية احترام الانسان واحترام الاختلاف «فمن شاء منكم فليؤمن ومن شاء فليفكر وإن الله غفور رحيم». ولم يفرض أي طرف على الآخر قناعاته، بل جاهد كل منهما لترجمة هذه القناعات بالممارسة العملية اليومية لكل نواحي الحياة، وتقديم كل ما هو أفضل لنجاح هذه العائلة بعيداً عن أي انانية او فردية باتخاذ القرار.
ولماذا الخلاف ما دام الاختلاف ليس على القيم الاخلاقية والانسانية، ولا على قواعد التربية السليمة، وطالما أن الاختلاف عامل مساعد على تقديم خيارات أوسع لكلا الطرفين وسبب لبناء عائلة متميّزة بتنوّعها وتماسكها؟
هذا النموذج الواعي والصادق بقناعاته جعل من الاختلاف أرضاً خصبة للزرع، فقدّم للمجتمع خمسة نماذج فريدة: ثلاث بنات وولدان شكّلتهم تركيبة تحمل من كل من الفكر الديني الفطري ومن الفكر العلماني أجمل ما فيهما من قيم، فكانت المساواة بين الجنسين قولاً وفعلاً وممارسة، وكانت المسؤوليات موزّعة بالعدل والانصاف. فلكل فرد من أفراد العائلة دور وواجبات وفقاً لقدراته وإمكانياته من دون أي تفضيل لجنس على آخر.
لم تنشأ الابنة على أنها ضلع قاصر أو غير قادرة على القيام ببعض المهام لأنها أنثى، ولم ينشأ الابن على أنه صاحب إمتيازات ذكورية. كل ما هو مطلوب من الابنة مطلوب من الابن. وقد ترجم هؤلاء الأبناء تربيتهم الممزوجة بين فكر ديني وفكر علماني بصياغة علاقاتهم الاجتماعية والعملية وحتى العاطفية بمفاهيم متقدمة تخطّت ما هو سائد دينياً ومدنياً، وقدّمت نموذجا أرفع وأرقى.
لا يكفي أن تتضمّن النصوص قواعد ومبادئ إنسانية متقدمة من دون ترجمتها الى ممارسات وأفعال وتنشئة مواطنية


فالابنة البكر كان مهرها منذ ثلاثين عاماً ألف كتاب في الثقافة العامة، والابنة الثانية مهرها زيارة الى القدس، والابنة الثالثة مهرها كفالة يتيمين اثنين ذكر وأنثى ورعايتهما وتعليمهما. أم الابن البكر الذي تزوج من صبية من بيئة متدينة، فقد طلبت أن يكون مهرها تقديم مساعدة في جمعية خيرية تعنى بشؤون ذوي الاحتياجات الخاصة، فيما تزوّج الابن الاصغر مدنياً في قبرص.
هذه القواعد والقيم التي تربى عليها خمسة اولاد أثمرت مفهوماً مغايراً عما هو سائد عن العلاقات بشكل عام، وعن مفهوم الزواج والاسرة بشكل خاص، وجعلت من المشاركة مبدأ اساسياً تبنى على اساسه العلاقات، كما لم تقدم المرأة ضمن قالب ذكوري تبعي ينقل الوصايا عليها من الاب والاخ الى الزوج.
هذه القواعد التي نتجت عن الاختلاف أبدعت في تطوير المفاهيم على عكس الآحادية التي تقتل كل إبداع وتطور. وقدّم هذا النموذج لإحدى حالات الاختلاف للمجتمع أفراداً نجحوا وتميزوا في حياتهم الخاصة والعامة لأن تركيبتهم المتنوعة التي تحكمها ضوابط ومعايير عالية تجلّت بإحترام الآخر إحتراما كليا سواء كان فردا ام جماعة بغض النظر عن قبولنا أو إعتراضنا أو تحفظنا على قناعات أو ممارسات هذا الآخر، ما دامت قناعاته وممارساته لا تعتدي على حريتنا أو تقلل من احترامنا.
الأنا والفردية والآحادية وفرض الرأي والتعميم في كل مسألة ليست إلا دليلاً على الضعف في كل نواحي الشخصية.