بحسب غوردون كومينغ، يعدّ لوبي الأعمال في فرنسا من المؤثّرين الداخليين في سياسة المساعدات، على مستوى الوزارات المعنية والإليزيه (حيث له قناة تواصل مباشرة) وصندوق التعاون الفرنسي ومجلس إدارة العلاقات الاقتصادية الخارجية من بين أجسام ومجالس أخرى. ويشمل اللوبي شركات الطاقة، ومنها ELF للطاقة التي استحوذت عليها «توتال» بعد سلسلة فضائح طالتها في الملفات السوداء للعلاقات الفرنسية - الافريقية، وشركة التقنيات العسكرية «ثومسون» شبه الخاصة، إضافة الى آلاف الشركات في قطاعات البناء والزراعة والتعدين.ويعمل اللوبي على تأمين مصالحه وصفقاته التجارية، عبر تغيير وتعديل القوانين في الدول المستهدفة عن طريق الضغط بالمساعدات لضمان بيئة عمل أكثر ربحية وأقل «مسؤولية» تجاه الدولة المستهدفة، كما يعمل على ضمان قيمة الفرنك الافريقي للحفاظ على أرباحه ومداخيله من الدول الافريقية بحسب كتاب كومينغ.
الجهة الثانية المؤثرة من الداخل هي الدول المتلقية للمساعدات، وهذه لها أيضاً علاقات مباشرة مع المسؤولين الفرنسيين على كل المستويات، تتسم بالزبائنية والفساد والخدمات المتبادلة والتمويل السري للحملات الانتخابية والصفقات الاقتصادية وحتى جرائم الاغتيال.
هذه قصة يبدو فيها الحديث عن الفساد والزبائنية ساذجاً وطفولياً، لأن فضح سياسات فرنسا في المساعدات والتعاون الدولي جاء في لحظة تاريخية كانت أميركا تريد فيها فصل استقلال فرنسا عن مستعمراتها السابقة، وإدخال الأخيرة ضمن شبكة فساد أكبر وأكثر عالمية، وإخراجها من استعمار قديم وتقليدي يقوم بالعمل بطريقة مافيوية فجّة إلى منظومة نهب مؤسساتية كانت في ذلك الحين أكثر أناقة وتكتماً؟ في تلك المرحلة، كان الاتحاد السوفياتي قد سقط ولم تعد أميركا تحتاج إلى فرنسا لاستيعاب مستعمراتها السابقة من المدّ الشيوعي، وبدأ الأميركيون ينظرون إلى هذه المستعمرات كجبهات استثمار جديدة مليئة بالثروات والفرص التي لا يستحق الفرنسيون حق الاستفراد بها بعد اليوم.
كان البنك الدولي، منذ تأسيسه، أداة ضغط وقيادة فكرية على الأوروبيين. وفي بداية الثمانينيات، كانت الأمم المتحدة الضاغط الأخلاقي على الدول الغنية لتبنّي الأجندة الأميركية عالمياً في مجال المساعدات، في قضايا مثل حقوق المرأة وتحديد النسل والبيئة. أما صندوق النقد الدولي فقد ألقى بظلاله الثقيلة على سياسات المساعدات والتعاون الأوروبية بفضل أزمة ديون العالم الثالث، فكان تعثر هذه الدول عن سداد ديونها وحاجتها إلى الحلول المؤقتة ووصفاته القاتلة بداية العولمة الأميركية لسياسة المساعدات. والهدف الرئيسي كان أن يشترط الأوروبيون - على رأسهم الفرنسيون - ربط دعمهم المباشر لأي دولة بأن تتبنى الوصفات المجربة للعقول المخربة، أي «التعديلات الهيكلية» المشؤومة التي اجتاحت دول العالم الثالث.
تزامن ذلك مع عهد الرئيس الفرنسي الاشتراكي فرنسوا ميتران. في بداية عهده، كان تدخل فرنسا العسكري في افريقيا جنوب الصحراء الكبرى يجلب لها لقب «كوبا الغرب». اذ اعتمدت سياسة مساعدات تتماهى مع حركة عدم الانحياز، وعقد ميتران اتفاقيات تعاون مع حكومات افريقية يسارية بهدف إعادة دمج الأنظمة الافريقية اليسارية في دائرة النفوذ الفرنسي. أي أن لبّ هذا التعاون استعماري لحماية المجال الفرنكوفوني وأكبر دليل هو تدخل فرنسا المشين في الإبادة في رواندا في عهده. حاول الرجل «إصلاح» سياسة التعاون والمساعدات، أي تغيير أسلوب العمل من الشبكة الى المؤسساتية. لكن الشبكة هزمته لأن مجموعة من الحكام الأفارقة فيها طلبوا إقالة جان بيير كوت المسؤول عن هذه الإصلاحات. بعدها انعطف ميتران انعطافة حادة وعيّن ابنه جان فرنسوا ميتران مسؤولاً عن خلية افريقيا واستبدل كوت المصلح بكريستيان نوتشي المسؤول عن الفضيحة المالية لكارفور والتي استخدم فيها أموال المساعدات لتمويل حزبه، والأهم أنه تبنّى سياسة القروض لدعم تصدير السلاح والمعدات العسكرية، وأطلق عمليات تدخل عسكرية واسعة في التشاد. كما عمل جاك شيراك حينها كرئيس حكومة على تقليص دور الدولة وتعظيم دور السوق في الدول الافريقية. وبالرغم من محافظة فرنسا على مجالها المحمي نسبياً، إلا أن شيراك استطاع خرق المجال المحفوظ لرئيس الحكومة وإجراء أول تعديل هيكلي في سياسة المساعدات الفرنسية بحيث تتماشى مع «نظام المساعدات العالمي» وإجماع واشنطن.
استغلت المنظمات غير الحكومية والدولية والإعلام والأكاديميا الفضائح المتلاحقة في عهد ميتران ونجم عنها أول خضوع أظهره الرئيس الفرنسي في خطاب له في أوائل 1990، وهو ما يسمى الاشتراط السياسي (الديموقراطية) مقابل المساعدات. بالنسبة إلى الأميركيين، الديموقراطية مدخل لخلق نخبة سياسية تابعة لهم في هذه الدول. كان ميتران متيقّظاً وحساساً لضرورة حفاظ فرنسا على نخبتها. لذلك صرح أيضاً بأن على كل دولة افريقية إجراء الإصلاح بحسب إيقاعها الخاص. القفزة الكبرى جاءت مع مرض ميتران، والذي استغله رئيس الحكومة وأعلن حينها ما عرف بعقيدة بالادور 1993 التي فرضت «الإصلاح الاقتصادي» واشترطت التوقيع على البرامج الاقتصادية للبنك الدولي وصندوق النقد مقابل تقديم الدعم الثنائي. وهذه البرامج كانت الدافع الرئيسيّ وراء خفض قيمة الفرنك الافريقي، رغم معارضة اللوبي الاقتصادي الفرنسي، هذا الخرق في السياسة الفرنسية كان أول استتباع حقيقي للسياسة الخارجية لفرنسا بالمنظمات الدولية التابعة لواشنطن.
في ظل الانتقادات الحادة لتدخل فرنسا المشين في مجازر رواندا، وفساد وزبائنية علاقاتها مع الدول المتلقّية للمساعدات وحمايتها العسكرية والأمنية للحكام الأفارقة الذين يصنّفهم الأميركيون طغاة ويصنّفهم الفرنسيون أصدقاء، بدأت الملفات السوداء لعلاقات «فرانس - افريك» بالتشكل، وارتفاع الصوت الأميركي بتسمية الفرنسيين بأنهم الأبطأ في فرض العقوبات والأسرع في رفعها حماية لمصالحهم، وانهم حجر عثرة في إقرار قوانين تمنع استخدام المساعدات الدولية كرُشى سياسية للدول النامية. عمد الفرنسيون الى تغيير اسم المؤسسة من صندوق تعاون الى وكالة تعاون (AFD) لإعطاء إشارة إلى المجتمع الدولي وأميركا تحديداً بأن «فرانس - افريك» أصبحت من الماضي. إلا أن هذا التغيير لم يغيّر من جوهر المقاربة الفرنسية. الطريف أن أحد الأسئلة الأكثر شيوعاً على موقع المؤسسة هو عن علاقتها بـ«فرانس - افريك». والأطرف هو الإجابة التي تعدّ درساً في الكلام المدبّج الرزين من دون التطرق إلى موضوع السؤال. وفي الحقيقة، إن سياسة فرنسا في المساعدات لم تخضع تماماً ولم تقم بفرض الإصلاح الديموقراطي والإصلاحات الهيكلية كشرط للمساعدات بشكل حقيقي حتى في أكثر الدول الافريقية فساداً ودموية. وحده لبنان حاز هذا الشرف، شرف الابتزاز السياسي والاقتصادي تحت ذريعة محاربة الفساد والديموقراطية من دولة يعدّها «المجتمع الدولي» الأكثر فساداً ورجعية وزبائنية ومافيوية في عالم المساعدات. يتحدث بعض اللبنانيين بفوقية عن بعض الدول الافريقية التي سبقت لبنان في النمو والتطور، ويغفل كثيرون منهم أن تطور أغلب هذه الدول جاء نتيجة الخيار الذي يرفضونه كأنه أكبر الكبائر، ألا وهو الانفتاح على الشرق وإقفال صندوق مساعدات باندورا الدموي الآتي من الغرب.