فاوض لبنان الرسمي أكثر من 12 عاماً على الحدّ البحري الاقتصادي مع العدو، اتّسمت المقاربة الإسرائيلية خلالها بالتناقض واتّباع الخيارات المفعّلة لمواجهة حزب الله، وبمحاولة فرض الإرادة على لبنان وتحصيل ما أمكن منه، سياسياً واقتصادياً وأمنياً.كانت إسرائيل معنية بالتوصل إلى تسوية، لكن بشروطها وخدمة لأهدافها. لكن ميزان القوى في لبنان، وموقف الرئيسين ميشال عون ونبيه بري، منعاها من تحصيل المكاسب التي أرادتها عبر التسوية البحرية. فكان القرار الأميركي - الإسرائيلي: لا استخراج غاز في لبنان قبل الخضوع للشروط الإسرائيلية - الأميركية.
إلا أن هذه الشروط فاضت عن حدّها، وباتت جزءاً لا يتجزأ من المقاربة العدائية للبنان وفي خدمة المعركة الكبرى التي تقودها واشنطن وحليفتها لإخضاعه عبر استغلال الأزمة الاقتصادية وتسعيرها، من أجل التوصل إلى اتفاق، ومن ثم رفع الفيتو عن استخراج الغاز، مقابل سلّة فوائد لإسرائيل وأميركا، من بينها إمكان تقييد حزب الله ودوره الحمائي، والتطلع إلى «نزع» سلاحه.
في المقابلة التي أجرتها قناة «الحرة»، منتصف حزيران الماضي، مع «الوسيط» الأميركي عاموس هوكشتين، كان لسان حال الأخير يقول: ارضوا بما يعطى لكم، وكفى عناداً. لا يوجد حق وحقوق، ليس لديكم شيء، وأي اتفاق أفضل لكم من لا شيء.
انتظرت تل أبيب وواشنطن الخضوع اللبناني تحت وطأة الأزمة الاقتصادية التي كانت تتفاقم يوماً بعد يوم، ومعها تفاقم الضغط على اللبنانيين.
وكما هو معلوم، الضغط المدروس والحكيم والهادف لا يطلق على عنانه، وإذا زاد عن حدّه المعقول، فسيستسهل من يتعرّض للضغط أي خيار مهما كانت نتائجه، في محاولة لإزالة الضغط. وهو ما حصل فعلاً: إن كان الموت جوعاً أمراً محتوماً، فليكن الموت عبر الحرب، إذ في الخيار الثاني احتمال أن يعقب الحرب أو ربما يسبقها خروج من الجوع ومن الموت نفسه.
على خلفية هذا الواقع، جاءت تهديدات الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله لتقلب التموضعات رأساً على عقب: لا استخراج للغاز من حقل «كاريش» ما لم يتمكن لبنان من استخراج غازه. المعادلة واضحة. وأُتبعت لاحقاً بجرعات تأكيد للجدية، عبر المسيّرات وغيرها من العمليات، التي أعلن عنها أو لم يعلن.
لم يكن في إمكان إسرائيل أن تهضم التهديدات، وخصوصاً أنها عبّرت عن قرار اتخذ بالمبادرة، ولو أدى إلى حرب. مع التقدير المسبق لدى تل أبيب بأن أي مواجهة، على خلفية المنشآت الغازية وبنيتها التحتية وصولا إلى استهدافها هي نفسها، هو واقع لا يمكن للدولة العبرية أن تتعايش معه، وستكون تبعاته السلبية عالية المستوى، مهما كانت التبعات على الطرف المقابل.
ورغم الإرباك وتجاذب المواقف المجبولة صمتاً وصراخاً، وطلب التهدئة مع إطلاق التهديدات، والتشديد على ضرورة الحل التسووي في سياق التهديد العسكري، كانت المحصّلة على الشكل الآتي:
أولاً، إعطاء لبنان كل المنطقة الاقتصادية المتنازع عليها وفقاً للخط 23 الذي فاوض عليه العدو ما يزيد على 12 عاماً.
ثانياً، إعطاء لبنان حقل قانا كاملاً مهما توغّل حدّه الجنوبي ضمن المياه الاقتصادية لفلسطين المحتلة.
ثالثاً، تمكين شركات التنقيب من العمل في الحقول اللبنانية بعد رفع الفيتو الأميركي عنها.
والى حين الاتفاق والتوقيع عليه، فهم وإدراك ضمنيان لدى الأطراف الثلاثة، لبنان وإسرائيل والولايات المتحدة، بأن المبادرة الميدانية وإمكانات التصعيد والمواجهة مرتبطة باستخراج الغاز من كاريش.
تداعيات الخضوع الإسرائيلي متداخلة ومتشعبة وهو ما تعمل حكومة العدو حالياً على الحؤول دونه. إذ إن دفع إسرائيل للتنازل والتراجع، تحت تهديد حزب الله، يعني أن إسرائيل تخشى المواجهة مع الحزب وأن ردعه لها أكثر بكثير مما كان ظاهراً. وبالتالي، فإن الخشية لدى العدو في أن يكون حزب الله، لاحقاً، أكثر ثقة وإقداماً ومبادرة في كل ما يتعلق بالرد على الاعتداءات، وأن تقوده الثقة الى المبادرة الميدانية الابتدائية. ومن شأن خضوع إسرائيل أن ينهي أو يحدّ من استراتيجية الضغط الأميركية بحصار لبنان ومفاقمة أزماته.
إلا أن أهم التداعيات هو إدراك إسرائيل، وكذلك حزب الله، أن الوافد الجديد على المعادلة الردعية بين الجانبين، وهو المنشآت الغازية وبنيتها التحتية، من شأنه إبعاد تل أبيب أكثر مما هي عليه الآن، عدائياً عن الساحة اللبنانية، في موازاة رفع مستوى الردع لدى حزب الله. وهذا «السلاح» (المنشآت) يوازي في كثير من أوجهه فاعلية وتأثير السلاح النوعي الدقيق.
إذا ما تلمّست تل أبيب تراجعاً في إرادة استخدام السلاح فستتراجع من الغد عن خضوعها البحري - الغازي


وإلى حين الإعلان عن الاتفاق وفقاً لما تبلور إلى الآن، يسعى العدو إلى محاربة شكل الاتفاق وصورته فيه، عبر منع ما أمكن عن الوعي الجمعي لدى جمهور الطرفين: إسرائيل لن تتراجع على خلفية تهديدات نصر الله، وهي أرادت فقط مساعدة اللبنانيين للخروج من أزمتهم عبر تنازلها (أنسنة الخضوع الإسرائيلي)؛ تأجيل استخراج الغاز من كاريش غير مرتبط بالتهديدات وهو نتيجة أعطال تقنية (يبدو أنها لا تنتهي إلا مع الاتفاق)؛ وإطلاق التهديدات وتسعير نبرتها ووتيرتها، كي تلطف من خضوعها، في سياق خدمة مصلحتها بأن لا يقدم حزب الله على جرعات تذكيرية خلال عملية التفاوض. وهي مقاربة لا تلغي أهمية إدراك حزب الله موقع المنشآت الغازية الإسرائيلية في معادلة الصراع مع الدولة العبرية.
قد يُظنّ نتيجة هذه المقاربة أن الحل، وفقاً للإرادة اللبنانية، بات قريباً. الظن، هنا، لا يخلو من وجه صحة، بل هو الأقرب على خلفية أرجح التقديرات، لكن ما قد يعترض هذه النتيجة أنها مرتبطة دائماً بوجود السبب الذي دفع إسرائيل إلى الخضوع. فإن تلمّست تل أبيب تراجعاً في السبب (سلاح حزب الله) وإرادة استخدامه، ستعمد من الغد إلى التراجع عن خضوعها البحري - الغازي، قبل الاتفاق وخلاله وبعده. فالعلاقة السببية لا تنفك بين السلاح والغاز.



الاتفاق «استسلام لنصر الله»
«ما يتبلور بين لبنان وإسرائيل بوساطة أميركية، هو خطأ استراتيجي كبير ستدفع إسرائيل ثمنه غالياً، وهو استسلام كامل لنصر الله». التوصيف يعود للوزير الإسرائيلي السابق، رئيس حزب الليكود العالمي، داني دانون، الذي أكد أمس أن إسرائيل ولبنان على وشك توقيع اتفاق على الحد البحري، يعدّ استسلاماً لجميع المطالب اللبنانية، ويتضمّن تمكين لبنان من حقل قانا حصراً، وقال إن «لبنان تنازل عن الخط 29 بعد تقديرات الخبراء بأن هناك حقلاً ضخماً للغاز في المنطقة المتنازع عليها، أي حقل قانا، يمتد حتى حقل كاريش»، إلى الجنوب منه. ووفقاً لدانون الذي تولّى طويلاً منصب سفير إسرائيل الدائم لدى الأمم المتحدة، فإن الاتفاق مع لبنان سيّئ لعدة أسباب:
- تخلّت إسرائيل عن حقل غازي ضخم يقدّر عائده بمئات المليارات من الشواقل (3.4 للدولار الواحد)، وهو عائد مالي كبير يعطى للبنان، ومن شأنه أن يعزز حزب الله.
- يشكل الاتفاق سابقة يبنى عليها في المفاوضات على الحد البحري مع الجانب القبرصي (حقل أفروديت - يشاي) وغيره من حقول الغاز التي تكتشف لاحقاً بين إسرائيل ودول أخرى في المنطقة، وربما على الحدود مع مصر.
- الاتفاق يعني استسلاما كاملاً لتهديدات حزب الله الذي سيدرك أن إسرائيل ترضخ للتهديدات.
من جهته، دافع رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي، أهارون حاليفا، عن الاتفاق البحري، عبر التأكيد على وجود مصلحة لإسرائيل بأن تكون للبنان منصة بحرية يستخرج منها الغاز، مضيفاً أنه لولا «خطف» لبنان من قبل إيران، لكان انضم إلى ركب التطبيع مع إسرائيل.
وأضاف حاليفا في كلمة أمس في مؤتمر «معهد سياسات مكافحة الإرهاب» في هرتسيليا، أن لحزب الله ثلاث هويات: المدافع عن الطائفة الشيعية، ووكيل إيران، والمدافع عن لبنان الذي خطف الشعب اللبناني. وقال «إن نصرالله يحظى بتقدير كبير في إيران، وفرضية العمل لديّ ولدى الجيش الإسرائيلي أنه ليس تابعاً بل شريك في اتخاذ القرارات مع الإيرانيين»، لافتاً إلى أن هناك احتمالاً في بعض الأحداث أن ينضم حزب الله، ونصرالله على رأسه، إلى دائرة العنف الإيرانية.
وإزاء التهديدات التي أطلقها نصرالله ضد منشآت الغاز في إسرائيل، قال حاليفا: «رفعنا إلى متخذي القرارات (في تل أبيب) تقديراتنا عن احتمالات التصعيد في الساحة الشمالية، وآمل في أن لا يستهين نصرالله بالرد الإسرائيلي إذا قرر التحرك. وأنا أذكر أننا أسقطنا الطائرات المسيرة التي أطلقها نصرالله باتجاه المنصة (سفينة الإنتاج في كاريش) إلا أنه لم يكن هناك أي رد فعل من حزب الله، رداً على المسيرات»، في إشارة منه إلى ما قال إنها «القوة الإسرائيلية العظيمة جداً»، في محاولة لقلب التموضعات بين فعل حزب الله الابتدائي، وانكفاء إسرائيل عن الرد.