لم تتغير طبيعة الانقسام في لبنان. ما زادت حدّته هو الخطاب الذي رافق الانتخابات النيابية. ويفترض أن يأخذ شكلاً مختلفاً، لكن أكثر حدّة، مع انطلاق الانتخابات الرئاسية. لكن ما افتقده الجمهور خلال الحملات الانتخابية قبل شهور، لن يجده الآن: لا مشاريع جدية لمعالجة ظواهر الأزمة ولا جذورها. نحن، فقط، أمام موجة من الشعارات التي تحوّلت مع الوقت إلى نكات سمجة، من دعاة السيادة عبر التبعية للغرب وجماعته من العرب، إلى الإنقاذ الوطني على طريقة تحالفات ما بعد 2005، إلى دعاة تكرار تمرين التعايش على غرار ما فعله تجمع اتفاق الطائف قبل ثلاثين سنة.ليست المشكلة فقط في الاختلاف حول تشخيص الأزمة. إذ يجد البعض المشكلة في نوعية الطعام، بينما يرى بعض آخر العلة في الامتناع عن ممارسة الرياضة. ويقول آخرون إن التدقيق في التفاصيل اليومية يتسبب في حالات الضغط التي تؤدي إلى انفجارات بين وقت وآخر. غير أن الطامة الكبرى تكمن في أن في لبنان من لا يزال حاكماً، من داخل الدولة أو خارجها، يخبرنا عن «لبنان الغني بطاقاته وثرواته»، من دون أن يقول لنا كيف نعيش في بلد من دون اقتصاد حقيقي.
عملياً، يستمر التكاذب بين الجماعات والشعوب اللبنانية. ويأخذ السعار الطائفي والمذهبي مجده ويتعاظم. وكل القوى المفترض أنها عابرة للطوائف والمناطق لم تعد تشكّل فعلياً أكثر من قلة قليلة. بينما لا تزال في جسم الدولة مؤسسات تتبع للقطاع العام يمكن أن نشهد فيها تفاعلاً - ولو إلزامياً - بين الفئات كافة، مثل القوى الأمنية والعسكرية أو الجهاز التربوي والجامعة اللبنانية. أما بقية البلاد، فتعيش حالات الفرز الآخذ في التصاعد، خصوصاً مع اتساع حالات الهجرة لمن يستطيع إليها سبيلاً.
وسط هذا الجنون، يقف اللبنانيون اليوم أمام مشكلة كبيرة. لا يملك أحد جواباً عن مصير العام الدراسي المقبل. المشرفون على التعليم الخاص يبتزّون الناس بأكلاف عالية مقابل استمرار تقديم الخدمات التعليمية – على رداءتها – وهم يعرفون أن لبنان ليس في وضع يمكنه خوض معركة إلغاء التعليم الخاص. لكن النتيجة واحدة: التعليم الجيد للأغنياء فقط، ولمن يحظون بحسنة المتبرعين للطلاب الآتين من أصول اجتماعية أفقر.
أما التعليم الرسمي، فقد أجهزت عليه الطوائف التي قلّدت بعضها بعضاً في تفريخ المدارس والجامعات الخاصة احتجاجاً أو تقليداً لنشاط الإرساليات منذ قرن ونصف قرن على الأقل. والنتيجة أنه لا وجود لبرنامج تعليمي موحّد بصورة جدية. الأمر لا يتعلق حصراً بكتاب التاريخ، بل بكل آليات التعليم ووضع المناهج، ما يجعل الامتحانات الرسمية العامة مجرد اختبار - تعبر منه الغالبية - لتنظيم الوثائق ليس إلا. أما ما بقي من تعليم رسمي، فلا يقوى على الانطلاق بعام دراسي جديد. ولم يعد مهماً، بالنسبة للحكام، كم عدد الذين انضموا إلى المدارس الرسمية اليوم، وكم عدد الذين يريدون الانتساب إلى الجامعة اللبنانية أيضاً. كما لم يعد مهماً كم بقي من أساتذة هنا وهناك، ومن بقي من كفاءات تميز هذا الجيل عن غيره ربطاً بمن يدير تعليمه وتربيته. وليس بين المسؤولين عندنا من يفكر أساساً في هذا الموضوع. فالفريق الداعي إلى الفيدرالية، والمتركّز اليوم في أوساط يمينية مسيحية، لا يهتم أصلاً للتعليم العام، بل يدعم الخصخصة وتدمير القطاع العام لأنه لم يعد تحت سيطرة هؤلاء. أما الطبقة الحاكمة من المسلمين، فلم تتعامل مع التعليم الرسمي بوصفه مركز الاستثمار الأول في البشر. بل تولت حشو القطاع التربوي بكل ما يؤخر تطوير البرنامج التربوي العام. وهؤلاء، لا يهتمون اليوم بمعالجة مشكلات تخص رواتب العاملين أو الموظفين أو الأساتذة. جل ما يفكرون به، هو إيجاد محسن من دولة خارجية يتولى الإشراف على تمويل التعليم الرسمي وفق هواه.
مشكلة لبنان اليوم تكمن في أن الداعين إلى التغيير النوعي في البلاد، ومنهم من فاز بالانتخابات النيابية تحت لواء التغيير، لا يتصرفون بمسؤولية إزاء مخاطر الانهيار القائم على الصعيد التربوي. هؤلاء لا يهتمون لمعرفة ماذا حل بجيلين على الأقل من السوريين والعراقيين واليمنيين جراء الحروب الدائرة في بلادهم، والهجرة الناجمة عنها، والتسرب المدرسي الهائل الذي أوصل الأمر إلى حدود انتشار الأمية بصورة مخيفة في هذه الدول. وهو ما يبدو أن لبنان سائر نحوه. والأمية، هنا، لا تقتصر على عدم تعلم القراء والكتابة، بل على عدم مواكبة أي جديد في العلوم التي تحتاجها المجتمعات للعيش في هذا العصر. وهي الأمية التي لا تنتج سوى الفقر والذل والجريمة والعنف.
مشكلة لبنان اليوم أن الداعين إلى التغيير النوعي، ومنهم من فاز بالانتخابات النيابية تحت لواء التغيير، لا يتصرفون بمسؤولية إزاء مخاطر الانهيار التربوي


النقاش حول كلفة التعليم العام أو الخاص في لبنان بات نقاشاً فردياً. حيث يحق لكل مواطن أن يفكر، بنفسه، ما إذا كان قادراً على توفير متطلبات تأمين تعليم جيد لأولاده. كما عليه، هو، أن يبحث عن الموارد الكاملة أو عن الدعم الذي يقوده عملياً إلى من بيده المال، سواء من كبار المحسنين الذين نتوقف عن السؤال عن مصدر أموالهم، أو من الجمعيات والمنظمات الدولية التي تريد تمويل تعليم أجيال نجد قسماً كبيراً منها بعد سنوات يقف في طابور الجمعيات غير الحكومية باحثاً عن أحلام تخص الطموحات الفردية والتغرب الثقافي والانفصال عن واقعه الاجتماعي وتحوله إلى البطالة المقنعة من خلال أعمال لا نتائج لها على الإطلاق. أما بقية الناس، فلتذهب هي وأحلامها إلى الجحيم، وليكن مصير جيل أو جيلين الارتماء في حضن الفقر والجهل، ما يقود هؤلاء إلى التبعية العمياء لزعامات وإقطاعيات ومرجعيات لا تعرف سوى النهب والقهر.