لم يكن سهلاً على رنين الحامل بشهرها السابع، والأمّ لولدين أيضاً، أن تستيقظ ذات صباح وتجد نفسها قد أصبحت، بين ليلة وضحاها، أماً وأباً لأطفالها. لقد قرّر زوجها السفر لتأمين حياة كريمة لها ولأطفالهما بعدما أصبح المال الذي ادّخراه «بلا أيّ قيمة» جرّاء الانهيار الاقتصادي. لكنّ المردود المادي الذي يعود على العائلة، لا يمكنه أن يسدّ فراغاً نفسياً وعاطفياً. تقول رنين: «بعد سفره انقلبت حياتنا، فوجوده كان مريحاً لنا». تستذكر لحظات الحزن التي عاشتها عقب سفره، وتشرح كيف ملأت عائلتها جزءاً من الفراغ العاطفي لدى الطفلين، ولكن هذا لم يمنعها من أن تلاحظ تغيّراً واضحاً في سلوكهما «صرت ألاحظ كيف يشرد أحدهما في معظم الأوقات، وكيف ترتسم علامات الحزن على وجهيهما». وبطبيعة الحال مع غياب الأب تزداد مسؤوليات الزوجة فتضطر أن تتحمّل أعباء إضافية تشمل الاعتناء بالأطفال والاهتمام بالمنزل واتخاذ القرارات وغيرها. تقول رنين: «وصلتُ إلى لحظات شعرت فيها بأن لا قدرة لي على تحمّل كل تلك المسؤوليات، ولكني كنت أُقنع نفسي دوماً بأنها أيام وستمضي».

ليس خياراً
يبرّر محمد، الخمسيني والأب لأربعة أولاد، قرار سفره إلى إحدى الدول الأفريقية بالأزمة: «كان الوضع تعيساً للغاية في لبنان ولم يعد يكفيني الراتب وعائلتي». وينقل لنا محمد معاناته في عمله في أفريقيا من مقوّمات الحياة الصعبة، وساعات العمل الطويلة التي تتجاوز الـ11 ساعة أحياناً خلال اليوم الواحد. ويشير إلى استغلال بعض أصحاب المؤسسات والمصالح في بلاد المهجر للبنانيين عبر تخفيض رواتبهم بحجة أن «الـ800 دولار بتعيشك ملك بلبنان»، ولكنه فضّل تحمل كل تلك الظروف من أجل عائلته. وعن العيش بعيداً عن العائلة يقول «ليست حياة... فصحيح أنني أعمل وأجني مالاً يكفي أفراد عائلتي اليوم، ولكنّي حرمتهم وحرمت نفسي من سعادة العيش بجانبهم، ففي اللحظات التي كان يجب أن أتواجد معهم فيها لم أستطع بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة». ويختم حديثه بحرقة: «يعتقد البعض أن السفر مريح للإنسان، ولكنه صعب ومتعب جداً من جميع النواحي».
حال محمد ككُثر ممن قرروا الهجرة إلى الخارج بحثاً عن فرصة عمل أو عن ظروف حياة أفضل من التي يعيشونها في البلاد، إذ تشير دراسة نشرتها «الدولية للمعلومات»، استناداً إلى حركة دخول وخروج اللبنانيين الصادرة عن المديرية العامة للأمن العام، إلى ارتفاع عدد المهاجرين والمسافرين في عام 2021 إلى 79,134 شخصاً مقارنة بـ 17,721 شخصاً في عام 2020 أي بارتفاع مقداره 61,413 شخصاً ونسبته 346%. «وبالتالي يكون عام 2021 قد سجّل العدد الأكبر من المهاجرين والمسافرين خلال الأعوام الخمسة الماضية».

الآباء: جزء من كلّ
ترجع الهجرة في لبنان إلى أواخر القرن التاسع عشر، إذ شهد لبنان مذّاك موجات هجراتٍ عدة، بسبب الظروف السياسية التي كانت حافزاً على الهجرة بدايةً ثم الأزمات الاقتصادية والمجاعة في الحرب العالمية الأولى، والحرب الأهلية. وتوقع «مرصد الأزمات» في الجامعة الأميركية في بيروت منذ نحو عام هجرة جماعية كثيفة «بدأت دلالاتها بالظهور»، ويٌتوقع أن تمتد لسنوات. ومنذ القرن التاسع عشر كان الرجال هم من يهاجرون طلباً للقمة العيش أو من أجل تأسيس حياة كريمة للعائلة خارج البلاد. ويشير أستاذ الأنثروبولوجيا في الجامعة اللبنانية علي بزي، إلى أن هجرة الآباء هي «جزء من كلّ» وليست جديدة على المجتمع اللبناني، «وبطبيعة الحال تبدأ الهجرة بشخص واحد، يمكن أن يأخذ أفراد عائلته إلى بلاد المهجر في حال استطاع لمّ الشمل».
لذا لا يمكن اعتبار سفر الآباء الدائم حلاً نهائياً لمشاكل العائلات، بل هو حلّ جزئي ومؤقّت، فالأسرة نواة المجتمع، وتقوم على شراكة شخصين يختلّ توازنها عند غياب أحدهما. ولكن برأي بزي وفي ظل كل المآسي التي تحيط بنا يبقى السفر الأقل خسارة، إذ «لا يمكن أن نقول اليوم لمعيل الأسرة يعيش أولاده الجوع بأن لا يهاجر وبأن يبقى بجانب أسرته، فنحن في وضع اقتصادي خانق». وبدوره، فيما ينصح مؤسس جمعية هيئة الإصلاح الاجتماعي للأسرة رفيق فياض الزوجين أن يتناقشا جيداً عند اتخاذ قرار السفر من أجل تخطي تلك المرحلة الصعبة.

المرأة تستعيد دورها
ويرى فياض أنه «عند هجرة الأب، تتضاعف أعباء الأم لتحلّ مكانه في تسيير أمور الأسرة واتخاذ القرارات بالإضافة إلى الاعتناء بالأطفال. هذا الأمر مكّن المرأة من استعادة دورها في اتخاذ القرارات وإدارة الأسرة والمنزل والأمور المالية، فأصبحت تمارس الشراكة وفق مفهوم الزواج»، خاصة أن المرأة في المجتمعات العربية الذكورية مهمّشة في مجالات عدة، فهي شريكة في العقد وليست شريكة في القرار، فبالتالي تصبح المرأة أكثر قوة داخل المجتمع.
من جهة أخرى، فإن سلبيات الهجرة تعود على الأم والأطفال من عدة نواحٍ، وبحسب فياض فإن «غياب عاطفة الأب والزوج يخلق نوعاً من الخلل. قد يتعرّض الطفل لضرر نفسي لا يعبّر عنه بشكل مباشر، فيظهر في سلوكياته أو علاماته المدرسية أو انطوائه وغيرها من ردّات الفعل». ويشير إلى أن إحدى النواحي السلبية في المجتمع والتي تولّدها الهجرة «الطويلة الأمد» هي الخيانة والتي ينتج عنها الطلاق في بعض الحالات. برأيه، «إن هذه الهجرة تفقد الأب دوره داخل الأسرة . ففي بعض الأحيان يصبح التعامل معه بوصفه صرّافاً آلياً فقط، ويصبح نظام الأسرة مبرمجاً على غيابه، ما يشعره بأنه دخيل على أسرته»، وهذا الواقع هو أحد الآثار الخطرة للهجرة التي لا تظهر في العلن. وعن تأثر المجتمع بهجرة الآباء يرى «أن الهجرة تخفّض نسبة الإنجاب وبالتالي تتغير ديموغرافية البلد على مدى سنوات».


غربة ثانية: تهجير الأبناء
بين تحدّيات البقاء وألم الرحيل، تبقى في قلوب الأهل غصّة من نوع آخر، فكيف تقوى قلوبهم على رؤية فلذات أكبادهم يُدفعون عنوة للرحيل من بلد «لا وطناً عرف أن يكون، ولا منفى». ربّت نجية أولادها وحيدة بعد هجرة زوجها منذ سنوات، فهي تدرك معنى أن يهاجر أقرب الناس إليك. عاشت حرقة هجرة زوجها، وها هي اليوم تعيش حرقة غربة أولادها «أصبحت غربة ثانية لنا» تقول.
هاجر ابنها الأكبر بعدما فقد الأمل في الحصول على وظيفة تؤمّن له حياة كريمة بعد تخرّجه من الجامعة. تقول: «شعرت بالغربة فعلاً لدى سفره، شعرت بأنّي فقدت كتفاً أستند عليه». وبعدما أنهى ابنها الثاني دراسته الجامعية شجّعته على السفر. «أحاسب نفسي أحياناً على ذلك، لأنني أعلم أنه وبعد هجرتهما لن يعودا إلى لبنان»، لكنها تستدرك: «اشتقتلن كتير... بس ما بدي يتعذبوا هون». ورغم حزنها تشير إلى أنها لن تشجعهما على العودة في هذه الظروف، إلا إذا حصلت معجزة وانتُشلت البلاد الغارقة في بحر الأزمات.