نُشر في الجريدة الرسمية بتاريخ 21/7/2022 المرسوم 9706 الخاص بتنظيم شروط التعليم المجاني الإلزامي وتحديده، وهو مبنيّ على تعديل المادة 49 من المرسوم الاشتراعي 134/1959 حول إلزامية التعليم في المرحلة الأساسية، والتي تنصّ على: «التعليم إلزامي في مرحلة التعليم الأساسي، ومتاح مجاناً في المدارس الرسمية، وهو حقّ لكلّ لبناني في سنّ الدراسة لهذه المرحلة. تُحدَّد بمرسوم يُتّخذ في مجلس الوزراء شروط وتنظيم هذا التعليم المجاني الإلزامي».صدر المرسوم بعد نحو 10 سنوات من تحويله إلى مجلس شورى الدولة، ما يستدعي التساؤل عن المعوّقات التي عرقلت إقراره، فلبنان صادق على تفاصيل اتفاقية حقوق الطفل عام 1990، وإن كانت بعض القوانين والمراسيم تحتاج إلى تعديل، كما أنّ صدور القانون 220/2000 الخاص بالمعوّقين يفرض تعديلاً لدمج هذه الفئة استجابة له ولاتفاقية حقوق الإنسان. كذلك شمل المرسوم المسائل الإدارية للحدّ من ظاهرة التسرّب ودور الوزارات الأخرى في متابعة إلزام أولياء الأمور بإلحاق الأطفال في التعليم.
لكنّ هناك تعديلاً جوهرياً أُسقط من هذا المرسوم، بينما المادة 49 المعدّلة أوردته بوضوح: «التعليم إلزامي ومتاح مجاناً في المدارس الرسمية... »، بحيث تحدّد المادة 49 مجانيته في المدارس الرسمية حصراً. أما المرسوم الجديد، فلم يأت على ذكر «المدارس الرسمية» وتركها مبهمة، إفساحاً في المجال للتأويل والاجتهاد، أو تضمين مجانية التعليم للقطاع الخاص عطفاً على قانون «الهوية التربوية» الصادر منذ أشهر قليلة والذي يُلزم الدولة بدفع نفقات التعليم عن التلامذة الملتحقين بالتعليم الخاص أسوة بالملتحقين بالتعليم الرسمي. وباتت المادة الثانية من الفصل الأول تنصّ على أن: «التعليم الأساسي المجاني ملزم لكل طفل في لبنان، من دون تمييز أو تفرقة لأيّ سبب كان، وخصوصاً بسبب جنسه، أو عمره، أو دينه (...)».

التعديل ضرورة
لا شك أن التعديل المقترح هو خطوة متقدّمة لجهة وضع آليات لدمج المعوّقين وتسهيل وصولهم للالتحاق بالتعليم النظامي، ولا سيما في المدارس الرسمية. ومن اللافت أن هذا الجانب من تطبيق القانون 220/2000 تحقّق بعد 22 سنة من صدور القانون!
ولا يمكن اعتبار تنظيم إلزامية التعليم ومجانيته اليوم إنجازاً، بل هو تأخير، فنحن متأخرون أكثر من نصف قرن في تطبيق القوانين المتفق عليها أصلاً والتي تستند إلى اتفاقيات دولية، لأن بعض المصالح الخاصة تهدف إلى تكييف القوانين لتتناسب مع مصالحها أو مع أجندات أخرى.

تنظيم الصراعات السابقة
يتميّز التشريع في لبنان في قدرته على حلّ صراعات الماضي المستمرّة وليس على استشراف المستقبل، وهو لا يتعامل مع القانون كمساحة لرسم المستقبل كما لا يقرأ واضعوه التقارير الأممية ولا الاتفاقات الدولية ولا الأزمة الاقتصادية الحالية التي تستدعي تشريعات للمستقبل
مبنية على أرقام ووقائع.
لطالما أثار موضوع إلزامية التعليم ومجانيته صراعات بين الدولة والمدارس الكاثوليكية تحديداً، ويعود ذلك إلى عام 1956 «عندما لمّحت حكومة الرئيس عبدالله اليافي إلى نيّتها فرض التعليم الإلزاميّ والمجانيّ للجميع. (...) في مواجهة مشروع التأميم، حملت المدارس الكاثوليكيّة ومؤيدوها مشروع البطاقة المدرسيّة (قانون الهوية التربوية)، وهي سياسةٌ تعطي فيها الدولة لكلّ تلميذ «بطاقة» وتسمح له بأن يتسجّل مجّاناً في أيّ مدرسةٍ يختارها أهله». (عن الباحث في سوسيولوجيا القوانين، سامر غمرون - المفكرة القانونية العدد 45). واستمرّ الصراع حتى خرج الرئيس شمعون بحلّ وسط بين الطرحين وأبصرت المدارس شبه المجانية النور حيث تدفع الدولة جزءاً من الأقساط، هذا الطرح قبلته المدارس الكاثوليكية على مضض.
نفهم من هذا الصراع المستمرّ حتى اليوم الأسباب خلف الإفراج عن مرسوم إلزامية التعليم ومجانيته، وإسقاط «الرسمية» منه تمهيداً لتطبيق قانون «الهوية التربوية». الخطر الفعلي والحقيقي الذي تستشعره المدارس الكاثوليكية هو مجانية التعليم واستعادة دوره وجودته في المدارس الرسمية بالتزامن مع الأزمة الاقتصادية التي ستحول دون تمكن أولياء الأمور من دفع الأقساط، ما يعني انتقال التلامذة (المسيحيين تحديداً) إلى التعليم الرسمي. فهي تخشى، كما سائر الطوائف، مجانية التعليم وجودته في المدارس الرسمية حصراً لأنّه يمهّد لبناء ثقافةٍ وطنيّةٍ موحّدة، بينما التعليم الخاص يهدّدها بتعدّد الثقافات التعليميّة الذي يغذّي تعدّد الولاءات على حساب الولاء للدولة و«يفكك التضامن المجتمعي ويعزّز التفاوتات الاجتماعية»، بحسب منظمة اليونيسكو.

* باحث في التربية والفنون