■ د. مصطفى محمد زعبي * يتصاعد الجدل الدستوري مع اقتراب نهاية ولاية الرئيس ميشال عون والحذر من الفراغ في سدة الرئاسة لأسباب شتى، لسنا في معرض الحديث عنها، حول دستورية انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية المنتهية ولايته الى حكومة تصريف أعمال في حال لم تُشكّل حكومة جديدة، خصوصاً أن كيان الدولة على شفير الإنهيار في ظل شلل شبه تام للمرافق العامة والوضع الإقتصادي المنهار، وتعطّل عمل بعض المؤسسات الدستورية نتيجة الاوضاع الإقتصادية. علماً ان هذا الجدل ليس جديداً. إذ سبق أن أثير مع انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، لكنه انتهى مع تشكيل حكومة الرئيس تمام سلام التي تولت صلاحيات رئيس الجمهورية باعتبارها حكومة كاملة الصلاحيات بعد نيلها ثقة مجلس النواب.
مع انتخاب مجلس نيابي جديد وبدء ولايته، أصبحت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، عملاً بأحكام البند «د» من الفقرة الأولى من المادة 69 من الدستور، بحكم المستقيلة. وباتت صفة تصريف الأعمال تنطبق عليها من الناحية القانونيّة، وفقاً للفقرة الثانية من المادة 64 من الدستور التي تنص صراحة على التالي: «لا تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نيلها الثقة ولا بعد استقالتها أو اعتبارها مستقيلة إلا بالمعنى الضيّق لتصريف الأعمال». و بما ان مجلس الوزراء لا يجتمع في ظل فترة تصريف الأعمال، ويفقد الوزراء العديد من الصلاحيات التي تنيطها بهم القوانين، فما هو مفهوم تصريف الأعمال من الناحية الدستورية؟ وهل يحق لحكومة تصريف الاعمال تولي صلاحيات رئيس الجمهورية المنتهية ولايته؟
سنحاول الاجابة على هذه التساؤلات على ضوء النص الدستوري وقرارات مجلس الشورى والمجلس الدستوري، من دون الوقوف على رأي الفقه الدستوري الذي نحترم بعدما ناقض البعض نفسه مؤخراً.

اولاً: المسوغ الدستوري لتصريف الاعمال
حدّد مجلس شورى الدولة في قراراته نطاق تصريف الأعمال فقد جاء في متن قراره رقم 293/2015:
وبما أن المادة 64 من الدستور المعدلة بموجب القانون الدستوري رقم ۹۰/۱۸ تاریخ ۱۹۹۰/۹/۲۱ تنص في نهاية البند الثاني منها على أن «لا تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نيلها الثقة، ولا بعد استقالتها أو اعتبارها مستقيلة إلا بالمعنى الضيق لتصريف الأعمال»، فيكون بالتالي المشرّع التأسيسي قد حدد الأساس الدستوري لمفهوم تصريف الأعمال وهو زوال المسؤولية السياسية عن الحكومة المستقيلة بسبب فقدان الرقابة البرلمانية على أعمالها، بحيث تخضع بالتالي تدابير الحكومة المستقيلة وتقدير ظروف اتخاذها، لرقابة القضاء الإداري لانتفاء المسؤولية الوزارية أمام البرلمان. وبما أن العلم والاجتهاد مستقران على اعتبار أن الأعمال الجارية أو العادية التي يعود للحكومة المستقيلـة أمر تصريفها (Expédition des affaires courantes) وجدت جذورها الدستورية في الفقرة الأولى من المادة ٥٢ من دستور الجمهورية الرابعة سنة ١٩٤٦ في فرنسا، وقد رفعها مجلس شورى الدولة الفرنسي إلى مصاف المبادئ القانونية العامة وحدّد مفهومها بدقة، حيث فرّق بين:
- الأعمال الجارية بطبيعتها أي كتلة القرارات اليومية التي تحضرها الدوائر الإدارية والتي يكتفي الوزير بتوقيعها بعد تدقيق موجز.
- الأعمال المهمة التي لا يعود إلى حكومة مستقيلة القيام بها إلا في الحالات الطارئة، على أن يبقى موضوع تحقق الحالة الطارئة وتوافر شروطها خاضعاً لرقابة القضاء الإداري.
- القرارات التنظيمية الأساسية (Grands reglements statutaires) والأنظمة التي تعدل الأحكام التنظيمية السابقة والحقوق المعترف بها بموجب القوانين، والتي لا تدخل أبداً ضمن صلاحيات الحكومة المستقيلة.
- Observations sous C.E. Assemblée 4 Avril 1952, Syndicat régional des quotidiens d'Algérie; G.A.J.A, 13ème édition, n ° 73, p.464. 12:17
وبما أنه ينبني على ما تقدم أن تحديد نطاق «الأعمال العادية» يستوجب التفريق بين الأعمال الإدارية والأعمال التصرفية، وبما أن مجلس شورى الدولة اللبناني اعتبر أن الأعمال التصرفية التي يمتنع على حكومة تصريف الأعمال اتخاذها، هي تلك التي ترمي إلى إحداث أعباء جديدة والتصرف باعتمادات مالية هامة، أو إدخال تعديل جوهري على سير المرافق العامة وعلى أوضاع البلاد السياسية أو الإقتصادية أو الإجتماعية، أي التدابير التي تثير البحث في المسؤولية الوزارية. - القرار رقم ٦١٤ تاریخ ١٩٦٩/۱۲/۱۷ وبما أنه في مقابل ذلك، اعتبر مجلس شورى الدولة أن من بين الأعمال العادية التي يعود للحكومة المستقيلة اتخاذها، الأعمال الإدارية اليومية التي يعود للهيئات الإدارية إتمامها ولا يمارس الوزراء عليها سوى إشراف محدود، وهي تشمل الأعمال الجارية بطبيعتها (Affaires courantes par nature)، أي كتلة القرارات اليومية التي تحضرها الدوائر الإدارية والتي يكتفي الوزير بتوقيعها بعد تدقيق موجز من دون أن تطرح صعوبة خاصة أو خياراً سياسياً أو قانونياً دقيقاً، كما هي الحال عليه بالنسبة للقرارات الإعترافية (Décisions récognitives) التي يتخذها الوزير ولا يمارس حيالها أي سلطة إستنسابية في التقدير، كونها تدخل في إطار تنفيذه لمهامه اليومية.
و بما أن حكومة تصريف أعمال لا تجتمع ولا يمكنها ان تتخذ قرارات اساسية، فهل يجوز إنتقال صلاحيات رئيس الجمهورية اليها؟

ثانياً: مشروعية تولي حكومة تصريف الاعمال مهام رئيس الجمهورية المنتهية ولايته.
نصت المادة 62 من الدستور على أنه: «في حال خلوّ سدة الرئاسة لأي علة كانت تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة بمجلس الوزراء».
و رغم أن النص لم يفرّق بين حكومة عادية او حكومة تصريف اعمال، فإن الجدل القائم يستند حول مشروعية انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية إلى حكومة تصريف الأعمال مردّه أسباب عدة، منها:
• ان لا سلطة لمجلس النواب على الحكومة المستقيلة من ناحية أدوات الرقابة. علماً انه يبقى من حق المجلس النيابي توجيه الإستجواب للوزراء.
• ان الحكومة الحالية منبثقة من مجلس نيابي انتهت ولايته وهي امام مجلس جديد لم يمنحها الثقة قبل اعتبارها مستقيلة.
و عليه، هناك من يعتبر انه دستورياً لا يجوز انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية المنتهية ولايته الى حكومة تصريف اعمال، لأن الثقة هي الشرط الاساسي لكي تكون الحكومة عاملة، وكذلك الامر بالنسبة للحكومة الحالية المستقيلة، لأن صلاحيات الرئيس بموجب المادة 64 تنتقل الى مجلس الوزراء مجتمعاً، وحكومة تصريف الاعمال لا يحق لها ان تجتمع.
الأساس الدستوري لمفهوم تصريف الأعمال هو زوال المسؤولية السياسية عن الحكومة المستقيلة بسبب فقدان الرقابة البرلمانية على أعمالها


غير أن المجلس الدستوري في قراره رقم 1/2005 تاريخ 6/8/2005، وإن لم يناقش مفهوم تصريف الاعمال على غرار مجلس شورى الدولة، بل اكتفى بالتأكيد على مبدأ إستمرارية السلطات الدستورية منعاً لحدوث أيّ فراغ دستوري، واعتبر ان مفهوم تصريف الاعمال تعبير عن هذا المبدأ. ومما جاء في القرار:
ان المجلس يرى ان مبدأ استمرارية السلطات الدستورية منعاً لحدوث اي فراغ هو مبدأ ذو قيمة دستورية على ما اقر ذلك المجلس الدستوري الفرنسي مراراً، وعلى ما يستمد من أحكام الدستور اللبناني بالذات التي تحول دون إحداث أي فراغ دستوري في أي من السلطتين المشترعة والاجرائية بنصوص دستورية مفصلة وحاسمة، بحيث ينتفي التوازن بين السلطات الدستورية المستقلة اذا حيل دون الفراغ في بعضها بموجب نصوص دستورية حاسمة واتيح الفراغ في بعضها الآخر، وبما انه، تأكيداً لما سبق، نص الدستور اللبناني في مواد مختلفة منه على ملء الفراغ في السلطتين التشريعية والاجرائية، كفرض الشروع في انتخاب الخلف خلال شهرين اذا خلا مقعد واحد في مجلس النواب (م 41)، وكأن تستمر هيئة مكتب مجلس النواب في تصريف الاعمال حتى انتخاب مجلس جديد (م55)، أو كأن تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة بمجلس الوزراء في حال خلوّ سدة الرئاسة لأية علة كانت (م62)، أو كأن تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نيلها الثقة او بعد استقالتها او اعتبارها مستقيلة تصريفاً للاعمال بالمعنى الضيق (م64)، او كفرض دورة انعقاد استثنائية حكماً على مجلس النواب عند استقالة الحكومة او اعتبارها مستقيلة لمواكبة تأليف الحكومة الجديدة ونيلها الثقة (م69)، او كاجتماع مجلس النواب حكماً في اليوم العاشر الذي يسبق أجل انتهاء ولاية رئيس الجمهورية (م73)، او اجتماع مجلس النواب فوراً بحكم القانون لانتخاب الخلف اذا خلت سدّة الرئاسة بسبب وفاة رئيس الجمهورية او استقالته او سبب آخر، حتى اذا اتفق أن خلت الرئاسة حال وجود مجلس النواب منحلاً تدعى الهيئات الانتخابية من دون ابطاء، ويجتمع المجلس بحكم القانون حال الفراغ من الأعمال الانتخابية (م74)، او اعتبار مجلس النواب الملتئم لانتخاب رئيس الجمهورية هيئة انتخابية لا هيئة اشتراعية بحيث يترتب عليه الشروع حالاً في انتخاب رئيس الدولة قبل القيام بأي عمل آخر (م75)...، وبما ان المجلس يرى ان هذا الحرص الدستوري الشديد على عدم احداث اي فراغ في السلطتين الاشتراعية والاجرائية انما ينسحب حكماً على المجلس الدستوري الذي هو ايضا سلطة دستورية مستقلة انشأها الدستور ونص على اختصاصها، وذلك عملاً بقاعدة توازن السلطات، وبما ان المجلس لا يرى سبيلا الى احقاق قاعدة التوازن بين السلطات في حال قدر للسلطة ان تحصن نفسها ضد الفراغ وتركت اخرى دون اي تحصين لفراغ يصيبها ولو الى حين، وبما ان مبدأ استمرارية السلطات الدستورية منعاً لحدوث اي فراغ هو مبدأ ذو قيمة دستورية على ما اقرّ به المجلس الدستوري، وعلى ما يستمد من أحكام الدستور اللبناني التي تحول دون إحداث اي فراغ دستوري في اي من السلطتين الاشتراعية والاجرائية، فلا مانع دستورياً تطبيقا للمبدأ من انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية المنتهية ولايته الى حكومة تصريف اعمال، على أن تمارس صلاحياتها بالمعنى الضيّق لتصريف الأعمال تفادياً لتعطيل المرفق العام في ظل الظروف الصعبة التي يمر فيها البلد على كافة الأصعدة.
ختاماً، تبقى هذه الدراسة الموجزة محاولة للاجابة عن التساؤلات المطروحة اعلاه على ضوء النص الدستوري والاجتهاد الاداري والدستوري، بعيداً عن التأويلات الفقهية. علماً ان الحل النهائي لهذه الاشكالية يتطلّب تعديلات دستورية لبعض النصوص، خصوصاً لناحية تحديد مهل تشكيل الحكومة، ترعى بشكل واضح عدم الوصول مستقبلاً الى حالة الفراغ الرئاسي والحكومي التي نعيشها.

* محامٍ وأستاذ جامعي