منذ سبع سنوات، نظّمت جمعية «أريس» التي تُعنى بتدريب النساء غير العاملات للدخول إلى سوق العمل تحويل موقف سيارات في الحمراء إلى سوق شعبي كلّ يوم أحد. ومع أنّ هذا السوق لم يُنشأ كرمى لفئة معيّنة، بل «لجميع اللبنانيين والأجانب من مختلف الجنسيات حيث يجدون السلع بأسعار مشجعة»، وفق المسؤولة عنه فاتن شحادة، إلا أنه ارتبط بالجالية الفيليبينية ارتباطاً وثيقاً. لماذا؟ لوقوعه مقابل كنيسة الكبوشية، حيث فتحت الفيليبين مكتباً لسفارتها يقصده الفيليبيون والفيليبينيات لتسوية أوضاعهم ولتأدية الصلاة في الكنيسة، ثم يمرون إلى السوق لشراء حاجاتهم في يوم عطلتهم. وهكذا صار هذا السوق ملتقاهم، يحتضن في زاويته مطعماً للمأكولات الآسيوية تذكّرهم بنكهة الوطن.
السوق يُحرم من زوّاره
قبل الأزمة، كان «يزور هذا السوق نحو ثلاثة آلاف فيليبيني وفيليبينية، تراجع عددهم اليوم إلى حوالي الـ600»، بحسب شحادة التي تجلس خلف طاولة إكسسوار وأحجار كريمة. تنظر حولها إلى السوق الذي لم يقفله جنون العواصف عندما احتمت الطاولات بالخيم، وحمل الزوّار المظلات. تأسف كيف كان جنون الأزمة أشد وطأة فغادرت العاملات الأجنبيات في الخدمة المنزلية بعدما عجزت العائلات اللبنانية عن دفع مستحقاتهنّ بالدولار، عدا أزمة المواصلات وصعوبة الوصول من أماكن بعيدة، ما حرم السوق من غالبية زوّاره. ولا نقصد هنا الفيليبينيات حصراً، بل السيّدات اللواتي وُلدن في بلاد وصمها الفقر مثل إثيوبيا، سيرلنكا، بنغلادش... فتوارثن التهجير للعمل في الخدمة المنزلية مقابل حفنة من الدولارات يرسلنها إلى عائلاتهن.
تقلّب أنجيلا الثياب البالية المفروشة على الأرض. الأكياس الكثيرة التي تحملها لا تشي بأنها تتسوّق من هنا باستمرار. «إنها زوّادة سآخذها إلى دبي»، تفسّر الشابة العشرينية التي جاءت من الفيليبين إلى لبنان منذ تسع سنوات ثم غادرته إلى دبي برفقة العائلة التي تعمل لديها. إذاً، في حين تقضي العائلة المغتربة العطلة الصيفية في لبنان، تحنّ أنجيلا إلى «سوق الأحد»، تقصده، وتشتري أشياء لها ولأصحابها في دبي الذين انتقلوا حديثاً من لبنان للعمل في الخدمة المنزلية أيضاً.
كان السوق يستقبل نحو 3 آلاف فيليبيني/ة وتراجع العدد إلى حوالي الـ600


هجرة «عكسية»
خلافاً لهجرة كثيرات من العاملات المنزليات الأجنبيات لبنان إلى الخليج وتحديداً دبي جرّاء الأزمة، كانت هجرة الفتيات الثلاث اللواتي يمشين تحت أشعة الشمس المتوهّجة ويحتمين منها بقبعات القش «عكسية». جئن إلى لبنان في عزّ الأزمة، جيني بير (31 عاماً) مثلاً وصلت منذ أيام تاركة زوجها وأبناءَها الثلاثة في الفيليبين، «خفت بداية من المجيء إلى لبنان لكثرة ما سمعت عن عدم الأمان فيه وكثرة النزاعات التي تدور بين أبنائه في الشوارع، لكنني أشعر بالارتياح الآن»، تقول. صديقتها دانا جاءت منذ عامين بعد ست سنوات من العمل في قطر. تعملان في المنزل ذاته في الحمراء. تشيدان بمعاملة العائلة «الجيدة» وبكرمها، «فإضافة إلى الـ500 دولار التي ترسلها إلى عائلة كلّ منا شهرياً، لا تبخل علينا بالمصروف الخاص». تتنقّل الثلاث بين الطاولات المتلاصقة التي تعرض المؤن والألبسة والأحذية والحقائب بنشاط وحماسة، معبّرات عن إعجابهن «بمناخ لبنان وجمال شعبه الداخلي والخارجي».
تؤكد بائعة الأحذية في السوق أنه «من بقيت من العاملات الأجنبيات، ومن تأتي للتوّ، تعمل في خدمة الأغنياء». القصص التي تسمعها منهن «تصدمها»، ففي خضمّ الفقر المستشري وتردّي الأوضاع المعيشية «هناك من يشغّل خمس عاملات في منزله، وهناك من يدفع للعاملة ألف دولار في الشهر مقابل تنظيف المنزل ورعاية طفل»!

بنغلادشية «عالقة»
خلال الحديث، تدخل على الخط سيدة بنغلاديشية تشكو: «أمضيت 16 عاماً في لبنان ولم أرَ قهراً وعذاباً كهذين»، نحكيها باللغة الإنكليزية أسوة بغيرها من السيدات اللواتي استصعبن فهم الأسئلة باللغة العربية، فتقاطعنا: «إحكي عربي، أنا بحب العربي»، لتثبت أنها فعلاً قضت عمراً هنا حتى حفظت اللغة وصارت «خبيرة» بالشأن السياسي. تتهم الطبقة السياسية «بالكذابين والحرامية». أما سبب عصبية هنية (39 عاماً) فيعود لتركها في لبنان وحدها بعدما هاجرت العائلة التي استقدمتها نحو فرنسا، وأُقفل المكتب الذي أتت عن طريقه. وفي حين لا تملك 500 دولار ثمن تذكرة المغادرة، «علقت» في بلد مأزوم.
تعمل هنية في فندق لقاء مليون ليرة فقط «وهذا لا يكفي لتسديد أجرة الغرفة التي أسكن فيها ومصاريف الأكل والشرب». لذا تركت الفندق وستبدأ مطلع الشهر المقبل العمل في خدمة منزلية مقابل 200 دولار شهرياً بعدما كانت تتقاضى 400 دولار قبل الأزمة. تعود إلى انفعالها وتلوّح بيديها: «يا عيب الشوم، صار كلّ شي غالي». تتذكّر الأشهر الأولى لانتشار جائحة كورونا عندما خسرت عملها وخافت العائلات اللبنانيات من استقدام عاملة منزلية تجنباً لانتقال العدوى، «مضت أيام، آكل نصف رغيف خبز. وبعدما بعت عقد الذهب طلبت من أختي لأول مرة أن ترسل إلي المال من بنغلادش إلى لبنان كي لا أموت جوعاً».