هل ينقلِب السحر على الساحر؟ هكذا يبدو وضع رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبّود الذي عمَد إلى وضع «صلاحياته» في خدمة تعطيل ملف التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت تسييساً وتطييفاً وحماية للمحقق العدلي القاضي طارق البيطار. ظنّ عبود أنْ في مقدوره استثمار الملف لصالحه شعبياً وسياسياً، لكن المشهد يذهب في اتجاه معاكس. هذا ما يتضّح من تتبّع أخبار «العدلية» وما هو مرتبط بها من ملفات «دسمة» ليست محصورة بانفجار المرفأ، وحسب. إذ إن الأيام المُقبلة ستشهد تطورات جديدة، حيث يحضّر أهالي الضحايا، كما أهالي الموقوفين، لتحركات جديدة للضغط من أجل منع استمرار لعبة التعطيل التي شارك فيها عبود إلى جانب القوى السياسية، ما أفقد الملف قيمته وأهميته وحساسيته. لكن المُفارقة اليوم، أن العين على عبّود صارت «مفتّحة» أكثر، إذ تأكّد مدى تدخله وتأثيره على القضاة لمنع أي حلّ يتعلق بملف التحقيقات ما دام يُمكن أن يؤدي إلى تغيير البيطار واستبداله. فهو من يمنع البتّ بمرسوم تعيين رؤساء أصيلين لمحاكِم التمييز لإعادة النصاب إلى الهيئة العامة للمحكمة، ما يمنع عملياً البتّ في دعوى المخاصمة المقدّمة ضد القاضي ناجي عيد، واستطراداً البتّ في دعاوى ارتياب ضد المحقّق العدلي. كما يمنع البت في طلبات نقل الدعوى من البيطار من قبل عدد من الموقوفين، من بينهم رئيس اللجنة المؤقّتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت حسن قريطم، المدير العام السابق للجمارك بدري ضاهر ورئيس الميناء في المرفأ محمد المولى. هذا ما يفسّر تلكؤ القاضية جمال خوري في البت في الملف قبل أن تذهب إلى العطلة القضائية.لطالما أثار تعامل عبّود مع ملف التحقيقات شبهات كثيرة، إلى أن بدأ الهمس داخل «العدلية» وبين القضاة عن «انطلاق المعركة الرئاسية». يتهم البعض عبّود بأنه «مرشح رئاسي» لبعض القوى الداخلية والخارجية» وأنه اسم تؤيده «القوات» اللبنانية سراً، في مقابل معلومات تقول إنه «كانَ من بين الأسماء التي عرضتها السفيرة الفرنسية في بيروت على البطريرك الماروني بشارة الراعي كمرشح رئاسي»، علماً أن «الراعي لا يُبدي دعمه له، على الرغم من أن عبود يزوره دائماً بعيداً من الإعلام».
كانَ عبّود دائمَ التأكيد على «عدم تدخله في عمل القضاء والقضاة» تحديداً في ملف المرفأ، في كل اجتماع يعقده مع أهالي الضحايا أو أهالي الموقوفين، الذين كانوا جميعهم يشعرون بمدى تأثيره على القضاة المعنيين بالملف، لكنهم كانوا يُحاذرون الاصطدام معه طمعاً بـ «مساعدته». إلا أن تدخله في ملف المطران موسى الحاج واستدعاء مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي فادي عقيقي إلى مجلس القضاء الأعلى، وفقَ ما قالت مصادر متابعة للملف، أكد أن عبود يكرر فعلته بالتدخل في القضاء لكن بمنطق معكوس، ووفقَ ما تقتضيه مصلحته ومشروعه السياسي، إذ كانَ هذا الملف من «القضايا» التي نُوقِشت مع الراعي.
اليوم، يدخل عبود إلى ملف جديد تجاهله طيلة الأشهر الماضية، وهو الوضع العام للقضاة. فبعد قرار أكثر من 370 قاضياً الاعتكاف الشامل والتوقف النهائي عن العمل بعدما رفعوا الصوت عالياً في مراحل عدة، محذّرين من أنّ «ظروف العمل قد لامست خطّ التعذّر من دون أن يلقوا آذاناً صاغية من السلطة التي تعمّدت التجاهل في التعاطي مع مطالبهم المحقة»، وفق بيان صدر عنهم، دعا عبود إلى جمعية عمومية أمس لمناقشة «الحال التي وصلوا إليها والظلم الذي يتعرّضون له». وهو ما دفع بعض القضاة إلى التساؤل حول السبب الذي يدفع عبّود للدخول على الخط، بعدَ أن كانَ مستقيلاً من دوره كل الفترة الماضية، فـ «وضع العدلية والقضاة يتدهور منذ فترة». وهو كانَ يعلَم أنه «بسبب الوضع الاقتصادي والمعيشي لم يعُد القضاة قادرين على الحضور إلى مكاتبهم ويواجهون صعوبة في تأمين لقمة عيشهم، فضلاً عن الحملات التي يتعرضون لها والتي باتت تضرب هيبة القضاء... ومع ذلك لم يكن يحرك ساكناً». وتقول أوساط «العدلية» إن بعض القضاة بدأوا باتهام عبود بأنه يريد استخدام هذا الملف والاستثمار به سياسياً كما فعلَ في ملف المرفأ، مما أدى إلى انقسام جديد في الجسم القضائي حول السماح له بذلك أو «الانتفاض» ضده في حال تأكد أنه يريد استغلال قضيتهم في البازار السياسي مجدداً.