لم يكن الذي دعا إليه «حزب الله»، مساء أوّل من أمس، مجلساً حسينياً، ولم يكن هناك قارئ عزاء يتلو مصرع الإمام الحسين بن علي، لكنّ الدموع غزت عيون آلاف الذين توافدوا إلى ساحة عاشوراء في الضاحية الجنوبية، كما المتسمّرين أمام شاشة التلفزيون. يصعب تحديد المشهد الأكثر إثارة للمشاعر، كما يصعب اختصار 40 عاماً في 50 دقيقة. هل هي مجسّمات القادة وأصواتهم تستعاد من جديد، أو صور المجازر المتلاحقة، أو فيديوات العمليات العسكرية ورايات المقاومة ترتفع في نهايتها على مواقع الاحتلال؟ أم تحرير العام 2000؟ أم انتصار حرب تموز 2006؟ وصولاً إلى كابوس تنظيم «داعش» الذي طغى بسواده على المنطقة. لكلّ مشاهِد لحظته التي غصّ فيها حزناً، ولكلّ منهم أيضاً قصته التي لم تُحك مع مقاومة كبرت في الضاحية.

جمال البدايات
اختصر المشهد أول من أمس في الضاحية جمال البدايات، اصطحب الأب المقاوم الذي غزا الشيب رأسه ولحيته أولاده نحو باحة عاشوراء لتعريفهم بما قام به هو وإخوانه من دون أن يشعرهم بالملل. جيل اليوم لا تعنيه القصص الطويلة، لا يهتمّ بالخبر الآتي على شاكلة «في هذه الزاوية أقمنا كميناً للعدو»، أو «تلك طريق خروجنا من الشريط».

اجتياح العام 1982 في مشهدية «أبجدية النصر» (هيثم الموسوي)

ولهذه العبارة الأخيرة رنّة مميزة لدى من عاش تفاصيلها فعلاً. أما اليوم، فلو سألت أيّ شاب أو شابة: ما تعني لك عبارة شريط؟ لن تسمع الإجابة المنتظرة إلا لماماً. جيل الألفية اعتاد المشاهد المصوّرة، القصيرة، المكثفة بالمعلومات. لو مرّ آلاف المرات على طريق خلدة، لن يدفعه فضوله لمعرفة «قصة خلدة» وما جرى في هذه المنطقة، كليّة العلوم بالنسبة إليهم جزء من الجامعة اللبنانية فقط لا محور مواجهة مع العدو على تخوم حي السلّم والليلكي في الضاحية الجنوبية. وعليه، كانت مناسبة «الأربعين» لإعادة تسليط الضوء على الشهداء المضحّين الأوائل، الجرحى، وحتى استخدام صورة الكاميرا لأول مرّة كسلاح في اقتحام المواقع.

احتفالية مختلفة
سحبت ساحة عاشوراء أول من أمس الناس من شوارع الضاحية فسكنت. الكلّ إما هنا، أو أمام شاشة ما. في الساحة، لا يمكن إخفاء تأثر الجمهور بالعمل. الغصّات، الدموع، الجمر الأحمر في عيون أحد قدامى الجرحى بعدما مرّت مشاهد «الاقتحام الأول لموقع سجد» مترافقة مع نداءات الشهيد سمير مطوط. بالإضافة إلى هذه الأحاسيس الصادقة، يمكن تسجيل مزاح بين الحاضرين جعل أحد الوزراء الجالسين في الصفوف الأمامية يقول «للشباب خلفنا جو ألطف من العمل». وذلك على أثر طلب أحدهم من رفاقه «الانسحاب تحت ساتر القنابل الدخانية» بعد إطلاق الدخان على المسرح.
أول من أمس، حاول حزب الله تغيير فكرة الإحياء وإخراجها من «كليشيه» الفرقة الموسيقية أو الإنشادية التي تؤدي مقاطعها قبل خروج الأمين العام... وانتهى. كنّا أمام مشهد جديد على كلّ المستويات، شاشات ثلاثية الأبعاد، فرق مسرحية، مقاطع موسيقية مسجلة خصيصاً للمناسبة، أرشيف يُعرض للمرة الأولى، وتقنية «الهولوغرام» المستخدمة للمرة الأولى في احتفالات كهذه. المؤثرات وحدها ليست الإنجاز، بل دمجها بعضها مع بعض في عمل واحد يحكي قصة ولادة المقاومة الإسلامية من رحم الاحتلال والقهر والمعاناة وسقوط الخيارات استعداداً لأخذ البلاد نحو أماكن أخرى، ومن لطيف الصدف أن يتزامن الاحتفال أول من أمس مع ذكرى حصار دبابات العدو للعاصمة في مثل هذه الأيام من عام 1982.

الإنجاز والتحديات
يشرح الشيخ علي ضاهر مسؤول وحدة الأنشطة الإعلامية في حزب الله، «أمّ الصبي في هذا العمل»، السّباق مع الزمن للوصول إلى الإنجاز الذي «يحتاج إلى ما بين ستة وثمانية أشهر من التحضير، فأخذناه على عاتقنا وأنجزناه خلال شهرين». يضيف ضاهر «كانت خطتنا الوصول إلى عمل يستحق العرض في مناسبة كالأربعينية». أما الخلل التقني الذي حصل وأدى إلى تأخير انطلاق العرض ساعة، فيرجعه ضاهر إلى «التجارب الأخيرة قبل العرض» التي أظهرت ضرورة «شدشدة بعض التفاصيل»، وكي لا تترك دون تعديل قبل 24 ساعة وهي «مدة كافية للعمل، خاطر الشباب، وسهروا حتى الصباح وأنجزوا المطلوب». ولكن الخلل وقع في مرحلة الاستدعاء (rendering) التي تجري على الحواسيب، وبالتالي «أصبحت خارجة عن إرادتنا». ويختم بأنّ «العمل تأخر لساعتين لا ساعة واحدة لأنه كان من المفترض أن يجهز عند الساعة 7:30، لكنه انتهى تمام الـ 9:30».
تأخّر العمل ساعتين وليس ساعة واحدة بهدف تحسين بعض التفاصيل


في المقابل، يرى مشاركون في الحفل أنّ العمل أسقط العديد من المحطات ولم يذكرها، أهمها الانطلاقة الأولى مع كلام الإمام الخميني حول «مساعدة المستضعفين أينما كانوا في العالم»، وقوله في تسجيل: «من سمع منادياً يقول يا للمسلمين ولم يجبه فليس بمسلم». وهذا الكلام قيل خلال فترة وصول الطلائع الأولى من الحرس الثوري إلى البقاع وانطلاق الدورات التدريبية الأولى. كما أن ضربات المقاومة للعدو في بيروت وحولها ودفعه إلى الانسحاب منها لم تنل حقها من العرض. يضاف إلى ذلك الإكثار من استخدام «الغرافيك»، رغم وجود تسجيلات حقيقية عن عمليات المقاومة المختلفة، وهي أفضل لتنشيط الذاكرة واستعادة أمجاد الأيام الماضية.