رحل مازن عبود. رحل مطلق الرصاصة الأولى، وصانع البدايات. لم يكن مازن ينتظر نداء من حزب أو تنظيم ليطلق ما في داخله من غضب، من عدو دنّس أرض الوطن واجتاح عاصمته واستباح البيوت والحرمات. كان انتشار الدبابات الإسرائيلية في شوارع بيروت والأنباء عن المجازر في صبرا وشاتيلا كفيلاً وحده بجعل الخوف مصدراً للقوة، والغضب فعلاً منظماً، ورفض الانكسار والمذلّة إرادة صلبة للقتال، فاختار أن يكون المقاوم الأول الذي لا يحسب حساباً للخطر أمام الواجب. راح يخبئ السلاح في وقت كان السلاح يرمى على المزابل خوفاً من الدهم وعمليات التفتيش. أعاد جمع الرفاق في وقت كان الهرب والتفكك السبيل الوحيد للنجاة.

قرر مع رهط صغير التنفيذ فكانت العملية الأولى في بسترس في قلب الصنايع، وفي اليوم التالي كانت العملية الكبرى في محطة أيوب في زقاق البلاط، عملية لم تنل ما تستحق في الإعلام. كانت عملياته الأولى صدى ومحركاً ومشجعاً لعمليات أخرى نفذها رفاق آخرون، شيوعيون وقوميون وناصريون وإسلاميون، في بيروت التي لم يتمكن المحتل منها أكثر من أسبوع واحد فقط. ومن بيروت التي وُلد فيها وأحبها وعشق بحرها وناسها وعرف أحياءها والزواريب، إلى الساحل الجنوبي وقرى الجبل، إلى صيدا ووسط الجنوب، لا تمر أيام إلا وتأتي الأخبار عن نبأ تنفيذ عمليات شارك فيها مازن أو رفاقه. في كل زاوية من خريطة الوطن كانت لمازن قصة ورواية وفعل بطولة، وكان السبّاق في تسجيل أنه صاحب العملية الأولى في أكثر من منطقة محتلة. مازن كان مرهفاً كشاعر، حساساً كطفل، لكن قلبه صلب كصوان، فهو يكون دائماً حيث لا يجرؤ الآخرون، ويأتي بشجاعة تلامس حد الجنون. إلا أنه كان الضمانة لرفاقه بأن جرأته لن تعرّضهم للخطر، وأن عودتهم ستكون سالمة آمنة معه. كان عشقه للأرض والوطن محفزاً لرصاصه، كان يردد على الدوام أن المقاومة وجدت لتنتصر، ورحل مرتاحاً لأنها انتصرت وانتصر معها الوطن.
لكن نصر الوطن لم يكن نصراً لمازن الذي أعياه المرض والتعب والإرهاق، وأدماه بجروح بليغة نالت من جسده وصحته وأصابت عائلته ونالت من بيته المقاوم. عانى من أوجاع الجسد والقلب، ومن الخذلان وظلم ذوي القربى ممن يفترض أنهم حلفاء وأصدقاء، ومن تهافت غير المستحقين على جوائز الترضية. صارع الحياة ألف مرة، وتمكن من البقاء. لكن المرض كان أقوى منه في النهاية، ومات فقيراً إلا من حب الناس والرفاق له.
في عمره القصير حكى مازن للوطن والأجيال المقبلة ألف حكاية. حكايات معروفة وحكايات لم تحك بعد. مازن عبود تاريخ في اسم واسم لتاريخ. إنه المختصر المفيد لتاريخ المقاومة الوطنية اللبنانية.
الشيوعي ينعى القائد المقاوم
خسر الحزب الشيوعي اللبناني وجماهير شعبنا بطلاً من أبطاله وقائداً بارزاً من قادته المقاومين الشجعان، الرفيق عبد الكريم عبود المعروف بـ«مازن عبود»، مطلق الرصاصات الأولى لجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الصهيوني في عملية بسترس في ليل 20/21 أيلول عام 1982.
رحل الرفيق مازن هذا اليوم جسداً تمكّن منه مرض عضال، لكنه بقي تاريخاً مكتوباً بأحرف من نار ونور.
انتسب الرفيق مازن إلى صفوف الحزب الشيوعي اللبناني عام 1974 من خلال منظمة الحزب في عين المريسة في بيروت. في بداية الحرب الأهلية اللبنانية، شارك في التصدي للقوى الفاشية والطائفية دفاعاً عن شعب لبنان ووحدته وعن تطوره الديمقراطي ودفاعاً عن الثورة الفلسطينية. خضع لعدة دورات عسكرية وأمنية وسياسية داخل لبنان وفي الخارج، ومنها دورة أركان في الاتحاد السوفياتي.
اضطلع بمهمات قيادية عدة في منطقة بيروت وفي القوات المركزية، منها قيادة قوات الطوارئ المركزية في الحزب. كُلّف بمهمات كثيرة في العاصمة بيروت وحماية الرفاق ومراكز الحزب وخاصة المركز الرئيسي في بيروت من شتى الاعتداءات وهجمات القوى الطائفية.
خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وعند وصول قوات الاحتلال إلى بيروت، تصدّى ببسالة للعدوان على رأس قوة حزبية مقاتلة، وأنزلوا خسائر فادحة في صفوف العدو وتمكّنوا من إعاقة تقدمه خاصةً على محور المتحف والجامعة العربية.
عُرف عن مازن أنه كان أحد الذين نفّذوا أول عملية للمقاومة الوطنية اللبنانية في بيروت، وهي عملية بسترس ضد جيش الاحتلال، تلبية لنداء جبهة المقاومة «جمول» في أيلول من عام 1982، وكان شريكاً في معظم العمليات التي نُفذت بعدها كعملية محطة أيوب وعملية منظمة التحرير وسلسلة عمليات الجبهة ضد الاحتلال الصهيوني.
مازن عبود بطل تحرير بيروت من الاحتلال الصهيوني وأحد الأبطال المميّزين الذين لاحقوا العدو على امتداد الأراضي اللبنانية وسدّدوا له الضربات التي أجبرته على الانسحاب من بيروت والجبل والإقليم وصيدا والبقاع الغربي والجنوب وصولاً إلى الشريط الحدودي.
كان له دور مهم في التخطيط والتنفيذ لعدد من عمليات المقاومة التي لم يُعلن عنها، في ضواحي بيروت وفي الجبل، منها عمليات أمنية وعسكرية في الحدث وفرن الشباك وشانيه وداريا... تكبّد فيها العدو عدداً من القتلى في صفوف ضباطه وعناصره.
كان مازن عبود المنفّذ الفعلي للعملية الأولى ضد العدو الصهيوني في مدينة صيدا عندما اصطاد عنصرين صهيونيّيْن في جيب عسكري وسط مدينة صيدا في وضح النهار، وكانت باكورة العمليات النوعية في المدينة والتي أدت إلى تحريرها لاحقاً.
قاوم مازن عبود قوات المارينز وتصدّى للقواعد العسكرية الأميركية في لبنان في تلك الفترة، وبعد أن تمكّن العدو من كشف هويته، قام بمحاولة اغتيال فاشلة، ومن ثمّ قام عبر عملائه في الداخل بتفجير منزله في عين المريسة.
تولّى الرفيق مازن، إلى جانب رفاق آخرين، تدريب الرفيقات والرفاق وتحضيرهم لتنفيذ أهم عمليات المقاومة الأمنيّة ضد أخطر قادة عملاء الاحتلال.
هذا غيض من فيض هذا التاريخ المشرّف الذي كتبه الرفيق مازن عبود بكفاحه طوال حياته، وما خفي كان أكبر من هذه المهمات، سواء تلك المتعلقة بالمقاومة ضد العدو وعملائه، أو بحماية الحزب والدفاع عنه عندما كان يتعرض للخطر، أو عندما كان الشعب اللبناني يتعرض للتنكيل والتعذيب من قبل عملاء العدو.
شارك الرفيق مازن في المؤتمر الوطني الثاني عشر للحزب بصفة مندوب مراقب، وانتُخب بالإجماع عضواً فخرياً في لجنته المركزية.
الحزب الشيوعي اللبناني وجماهير شعبنا إذ يودّعون هذا القائد البطل يعاهدونه على المضي قدماً على الطريق الذي قدّم حياته من أجله، إنه طريق الأحرار، طريق المقاومين الوطنيين من أجل التحرير والتغيير، طريق بناء وطن حرّ وشعب سعيد. كلّ التعازي لعائلته ورفاقه ومحبّيه ولكل المقاومين ولأبناء بلدته عنقون التي قدّمت لهذا الوطن ابناً من أبنائها الأبرار.

* الحزب الشيوعي اللبناني