غالباً ما تعتبر الأفلام الروائية حول السجون فرعاً من أفلام العصابات والجرائم، ونقيضها في نواح كثيرة. تركز أفلام السجون على شخصيات سقطت وسجنت وتسعى للخلاص. وهي تدور، في جوهرها، حول الحفاظ على الذات في ظل سلطة السجن، وتعرض الحياة داخل هذا العالم المغلق والمصغر، وتتعامل مع موضوعات إنسانية أساسية كالحرية والسلطة والعدالة والقانون والرحمة، وتجبرنا على الشعور بمخاوف تثيرها داخلنا، من بينها فقدان الاستقلالية، الشعور بالملل والفوضى، العنف بين النزلاء، تعسف حراس السجن، تلاشي الذكورة والانوثة، الحرمان من الحياة الجنسية والضعف المستمر للصحة العقلية. أما الأفلام الوثائقية، فهي عين واقعية داخل هذه الجدران. وبالواقعية، هنا، لا نعني الحقيقة، لأن الكاميرا تنقل في النهاية رؤية المخرج، ووضع الكاميرا في مكان محدد ينقل وجهة نظر من وضعها.بالعودة إلى عالمنا العربي، التنقيب في هذا المكان الصغير جاء من أجل الدراما والكوميديا والسخرية والاثارة، ومعظم الأفلام الروائية لم تكن لأولئك الذين يقبعون داخل هذه الجدران، بل صندوق فرجة لمن هم خارجها.
مواضيع السجون جاءت على شكل موضة سينمائية، فضلاً عن تناول معظمها لهذه القضايا بسطحية، بما فيها الأفلام الوثائقية. سينما السجون العربية هي سينما سياسية لا إنسانية، وأكثرية الأفلام الوثائقية العربية التي تتحدث عن السجون (لا نجمل هنا أفلام السجون والمعتقلين في فلسطين)، تفوح منها رائحة أموال «الرجل الأبيض»، وهي بمثابة تصفية حساب مع سلطة أو فضح أنظمة سياسية أو التركيز على قمع نظام ما، من دون الاهتمام بالقابعين خلف القضبان الذين يصوَّرون بمعظمهم كمساجين سياسيين.
لعبت السجون دوراً كبيراً في حكايات السينما المصرية، في أفلام درامية أو كوميدية وحتى رومانسية، منها «30 يوم في السجن» (1966)، «سجن أبو زعبل» (1957)، «الكرنك» (1975)، «حب في الزنزانة» (1983). أما الأفلام الوثائقية التي صنعت في مصر فكان معظمها لفضح أنظمة قديمة أو جديدة، مثل «سجن العقرب مقبرة الاحياء» أو «موت في الزنزانة».
«الغرفة السوداء» للمخرج المغربي حسن بنجلون، من أهم الأفلام المغربية التي تطرقت إلى موضوع السجون، وهو مقتبس من قصة حقيقية عن المعتقل السياسي السابق جواد مديوش. يركز الفيلم على معتقل «درب مولاي الشريف» الذي مورست فيه في السبعينيان شتى صنوف التعذيب على معتقلين كانوا ينتمون إلى الحركة الماركسية اللينينية. أما آخر الأفلام فهو فيلم «قبل زحف الظلام» للمغربي علي الصافي الذي أعادنا إلى السبعينيات، وإلى «سنوات الرصاص» التي شهدت صراعات واحلاماً جماعية للتغيير. كثيرون ممن تعرّفنا إليهم في الفيلم انتهى بهم المطاف في السجن أو الاختفاء بلا أثر. «قبل زحف الظلام» مكرس لضحايا الرقابة والقمع من الفنانين والمنتمين إلى الحركات الماركسية التي اعتبرت السينما أداة توعية لاكتشاف الذات.
السينما اللبنانية لم تتطرق كثيراً إلى السجون والمساجين. مصممة الصوت المخرجة اللبنانية رنا عيد تطرقت في فيلمها «بانوبتيك» إلى نظارة الأجانب المخالفين في بيروت، وكذلك فعلت نادين لبكي في فيلمها «كفرناحوم»، ولكن بطريقة مختلفة. صوّرت عيد المساجين بواقعية، وقدّمت لبكي النظارة كأنها فندق للاستجمام. يبقى أن أهم تجربة عن السجون للمخرجة زينة دكاش من خلال ثلاثة أفلام وثائقية («12 لبناني غاضب»، «يوميات شهرزاد»، و«السجناء الزرق»)، فيما لم نشهد فيلماً سينمائياً واحداً عن عن معتقل الخيام، أهم السجون في لبنان وأبرز شاهد على غطرسة الاحتلال الإسرائيلي، باستثناء افلام تلفزيونية أو تقارير إخبارية طويلة.
عام 2017، فاز الفيلم الفلسطيني «اصطياد الاشباح»، للمخرج رائد أنضوني، بجائزة الدب الفضي لأفضل فيلم وثائقي. الشريط التجريبي للممثل والمخرج يمكن ادراجه في إطار الـ«ديكودراما»، وفيه يحاول رجال فلسطينيون كانوا اسرى في سجون الاحتلال التعامل مع الصدمة وعلاجها من خلال إعادة تمثيل قصص اسرهم وتعذيبهم.
قبل ذلك بسنتين، قدمت المخرجة الفلسطينية مي مصري فيلمها الروائي الأول «3000 ليلة» الذي يروي قصة شابة فلسطينية تعتقلها قوات الاحتلال الإسرائيلي في نابلس، تُحكم بالسجن ثماني سنوات وتنقل إلى سجن إسرائيلي شديد الحراسة لتقيم مع مجموعة من السجينات الفلسطينيات والإسرائيليات. وسرعان ما نكتشف انها حامل وأنها ستلد داخل السجن. وفيما تقاتل من أجل سلامة الطفل الذي لم يولد بعد، يضغط عليها مديرو السجن للتجسس على زميلاتها الفلسطينيات، لتقع الشابة في صراع المفاضلة بين حقوقها الأساسية وحقوق زميلاتها. قبل الفيلم اجرت مصري كثيراً من الأبحاث وقابلت سجينات سابقات، من بينهن من أنجبن أطفالاً اثناء فترة سجنهن.
المخرجة رنا عـيد تطرقت في فيلمها «بانوبتيك» إلى نظارة الأجانب المخالفين في بيروت وكذلك فعلت نادين لبكي في فيلمها «كفرناحوم»


العام الماضي، أثار فيلم «أميرة»، للمخرج المصري محمد دياب، جدلاً كبيراً. يروي الفيلم قصة أميرة، الفلسطينية ابنة الـ 17 عاماً التي ولدت بواسطة عملية تهريب النطف. تعيش أميرة مع والدتها وردة وعائلة أبيها نوّار الأسير في السجون الإسرائيلية. زوج وردة لم يلمسها قط، ولا تراه، هي وابنته، إلا من خلف الزجاج خلال الزيارات العائلية. كل شيء يبدو طبيعياً إلى أن يطلب نوّار من وردة أن تحمل مجدداً بواسطة تهريب النطف. تنجح عملية التهريب، لكن يكتشف الأطباء أن النطفة هي لشخص عقيم لا يمكنه الانجاب إطلاقاً، ما يثير شكوك أميرة وعائلة أبيها في سلوك الأم، فتبداً عملية مطابقة للبصمة الوراثية مع جميع المحيطين بالزوجة، لكن من دون جدوى. تواصل أميرة عملية البحث عن والدها البيولوجي إلى أن تصل إلى قناعة بأن حارس السجن الإسرائيلي الذي هرّب النطفة التي من خلالها أتت إلى الحياة استبدلها بنطفة منه.
«هيئة شؤون الاسرى والمحررين» و«نادي الأسير الفلسطيني» و«الهيئة العليا لمتابعة شؤون الاسرى» طالبت بوقف عرض الفيلم الذي أدت الضغوط والحملات إلى منعه من العرض، قبل أن يسحبه الأردن من سباق الاوسكار. قضية الاسرى جرح إنساني وسياسي ونضالي حساس، فهل يجوز «التلاعب» به فنياً لضرورات التشويق والاثارة؟
هناك عبارة تنسب إلى فيودور دوستويفسكي تقول «يمكن الحكم على درجة الحضارة في المجتمع من خلال دخول سجونه». ويتفق نيلسون مانديلا مع هذه العبارة بقوله: «لا أحد يعرف حقاً أمة حتى يكون داخل أحد سجونها. يجب ألا يتم الحكم على الامة من خلال معاملتها لأعلى مواطنيها، بل عبر معاملتها لأقل مواطنيها». السينما العربية لم تدخل سجوننا، ولم نعرف حضارتنا وتاريخنا من خلال سجوننا. انحطاط سجوننا يشبه هزائمنا المتكررة، فلم نعرف كيف نصور السجون ولا السجناء، ولم نتعلم عدم تصويرهم كبشر، ولا توجد كاميرا ترينا كيف يعيش مسجونونا لنعرف مستوى حضارتنا.