في معرض الحديث عن نتائج الامتحانات الرسميّة والعدد الصادم من المتفوّقين الذي أنتجته هذه الامتحانات، اكتشف الزملاء أنني كنت من المتفوّقين في دورة عام 2006، إذ حللتُ في المرتبة الأولى في بيروت والثانية في لبنان في قسم الإنسانيات. طُلب مني مشاركة تجربتي مع التفوّق حينها، وهو ما كنت أتجنّب المجاهرة به علناً، إما خوفاً من ألّا أبدو اليوم وبعد مرور 16 عاماً «بالنبوغ» الكافي، أو احتراماً لزملائي في الجريدة كي لا يشعروا بوطأة «إبداعي»، ما قد يحمّلهم أعباءً إضافية للارتقاء إلى مصاف «عبقريتي» المفترضة. «عبقرية» يبدو أنني فقدتها اليوم بعدما بات الجميع في عداد المتفوّقين. لم يكن السياق التاريخي آنذاك مختلفاً عنه في الوقت الراهن. الجو لم يكن مثالياً للدراسة فكيف الحال بالتفوّق، خاصة أن البلاد كانت تعيش ارتدادات اغتيال الرئيس رفيق الحريري وما تبعه من أزمات سياسية وتفجيرات. تكفي الإشارة إلى أن اغتيال الشهيد سمير قصير جرى على بعد أمتار من مدخل مدرستي زهرة الإحسان في الأشرفية حيث كنت واقفاً، لتبيان حجم الضغوطات النفسية التي كنا كطلاب نرزح تحتها.
لا أنكر أنني كنت أتوقع كما معظم أساتذتي أن أحقّق نتيجة مشرّفة في الامتحانات الرسمية استناداً إلى علاماتي المدرسيّة، لكن لم يخطر في بالي للحظة أن أكون في عداد المتفوّقين، خاصة أنني لم أكن على دراية من الأساس أن وزارة التربية تقوم بتحديد الطلاب الأوائل في كلّ قسم عند صدور النتائج. فحينها كان موقع «فيسبوك» على سبيل المثال في بداياته، وبالتالي لم يحظَ المتفوّقون وقتها بامتياز أن تُنشر صورهم وأسماؤهم وعلاماتهم على صفحات التواصل الاجتماعي، وأن يحظوا بالتبريكات من آلاف المواطنين. لعلّ الأمر الإيجابي الوحيد من افتقارنا إلى «الشهرة» الوهمية حينها، هو أننا لم نشكل مادة للسجال الطائفي والمذهبي المَقيت حول أي طائفة أنجبت التلامذة الأكثر نبوغاً. كنا فقط طلاباً لبنانيين، قبل أن تتحوّل هذه الصفة إلى لعنة للكثير من الطلاب، سواء من الذين اختاروا أن يكملوا تعليمهم في الخارج، أو ممن صمدوا في لبنان طوعاً أو جبراً، وخاصة بعد الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالبلاد وانعكاساتها على القطاع التربوي والتلامذة.
سأتجنّب الخوض في تقييم المناهج وطرق التعليم المعتمدة، وتحديداً الأونلاين، عدا إضراب الأساتذة، إضافة إلى الظروف الاقتصادية، وانعكاس كلّ هذه الأمور على الطلاب لكون الموضوع خارج اختصاصي. إلا أنني أسمح لنفسي بالتوقف من باب المراقب العادي أمام العلامات المسجّلة خلال دورة العام الجاري في كامل الأقسام والتي أنتجت، وفي مفارقة فريدة من نوعها، نسبة من التلامذة الذين حازوا على مرتبة جيّد أو جيّد جداً تفوق نسبة الطلاب الذين نجحوا بشكل عادي. فعوض أن يكون التفوّق استثنائياً تحوّل إلى قاعدة، وبدل أن يكون التحدي هو النجاح وتجنّب الرسوب، أصبح التحدي أن يضمن التلميذ لنفسه مقعداً على جداول الشرف كون عبور الامتحانات لم يعد بالأمر الجلل وفي حكم المحسوم.
ومن دون وجود أيّ نية أو رغبة بالانتقاص من نجاح أو تفوّق أيّ طالب أو طالبة، الذين لا يتحمّلون حكماً أي مسؤولية وقاموا بواجبهم بالدرس والاجتهاد، إلا أن العلامات في قسم «الإنسانيات» استوقفتني، خاصة أن علامات المتفوّقين في هذا القسم لامست معدل الـ17 واقتربت من معدل الـ18، وهو ما يثير الاستغراب كون المواد الأساسية في هذا القسم، وخلافاً للأقسام العلميّة، لا تحتمل وجود إجابة واحدة صحيحة. وإذا جازت المقارنة، فإن المعدّل الذي حزت عليه عام 2006 كان 14.95 وهو ما كان يُعدّ معدلاً مرتفعاً في قسم مثل قسم الإنسانيات، بغضّ النظر إن كانت الامتحانات حينها تُخاض وفق منهج كامل وفي غياب أي مواد اختيارية.
لقد فقد قسم الإنسانيات على مدار العقود الماضية، وتحديداً بعد الحرب الأهلية، رونقه. فبعدما كان مقصداً لمحبّي الأدب ومدعاة للفخر بين الطلاب بأنهم يدخلون عالم الفلاسفة والمفكّرين العظماء، تحوّل تدريجياً إلى «مهرب» لكلّ طالب لا يجد موطئ قدم له في باقي الأقسام، باستثناء قلة لا يزال يستهويها الفكر واللغة. والخوف كلّ الخوف يكمن في أن تعمّق العلامات العالية والاستثنائية التي برزت خلال دورة الامتحانات الرسمية الماضية من النظرة «الدونية» لهذا القسم، وبأن تصبح الفلسفة شغلة من لا شغل له.