في ثمانينيّات القرن الماضي، وحتى في تسعينيّاته، كان شائعاً استخدام تعبير «قبل الأحداث» كنقطة فصل زمنية ترمز إلى فترة ما قبل الثالث عشر من نيسان من عام 1975. في الذاكرة العامة للجيل الذي عايش «الأحداث» ثمّة فصل بين عالَمَيْن وزمنَيْن مختلفَيْن، ما قبلها وما بعدها. طبعاً «الأحداث» لم تكن محدودة بما حدث يوم الثالث عشر من نيسان، أو بما حدث على متن باص كان مارّاً في حيٍّ بيروتي (وإن كان التقسيم الإداري يصنّفه كبلدة في المتن الجنوبي). الأحداث تسارعت وبات لكلّ لبناني الثالث عشر من نيسانه، عاش فيه الانتقال من عالم ما «قبل الأحداث» إلى زمن «الأحداث». طبعاً سبقت أحداثَ 1975 أحداثٌ عدة، لكنّ الأمور كانت تعود إلى طبيعتها نسبياً ولم تفصل الذاكرة الجماعية بين عوالم مختلفة عند حدوثها. بعد مرور بضع سنين على بداية الحرب الأهلية لم تعد الذاكرة تفرّق بين نيسان وبين أيلول، أو بين 75 وبين 76، أو بين حدث وبين آخر. ما تذكره هو أن «قبل الأحداث» كان العالم أجمل، إذ إن الحنين قادرٌ على محو كلّ عيوب ذلك العالم لتضخيم بشاعة الحاضر المَعيش، فبشاعة تلك الحقبة أهّلت الأرضية لـ«الأحداث» الأهلية. لم يعد تعبير «قبل الأحداث» يعني اليوم ما كان يعنيه في فترة باتت من الماضي البعيد، وخاصة أن لبنان عاش أحداثاً وأحداثاً مذّاك. لكن رغم كلّ ما مرّ على لبنان، قد يكون الرابع من آب حدثاً فاصلاً بين عالَمَيْن وزمنَين للجيل الذي عايشه. لم تكن فترة ما قبل 4 آب زمناً جميلاً، كما يحلو لرومانسيّي لبنان الستينيات وصف تلك المرحلة من تاريخ هذا الكيان، لكنها كانت فترة لم يمت فيها الأمل بإنقاذ لبنان بعدُ، وإن كان ذلك الأمل الباقي يلفظ أنفاسه الأخيرة حينها. كان هناك من يعيش وهم ثورة رغم أنه كان موبوءاً بالجائحة التي كانت في أوجها. كما كان هناك من يرى مستقبلاً أفضلَ وإن كان الزمن زمن انهيار.
انفجار المرفأ والأحداث التي تلته أثبتا أن لبنان الدولة بحلّته الطائفية (نسبة إلى الطائف)، كما حُلَلِه السابقة، غير قابل للاستمرار. لا داعيَ لنستذكر هول الكارثة لأن أحداً لم ينسَها بعد. لكنّ استحالة المحاسبة والعدالة لآلاف الضحايا هي ما قضى على «الأمل الباقي». دولةٌ غير قادرة على معاقبة عميلٍ بـ«شدّة أذن» حتى، كيف لها لتكسب ثقة شعب بتحقيق العدالة عندما يكون المقصّرون والمتقاعسون والفاسدون والفاشلون إلى حدّ الإجرام تشكيلة من الرؤساء والوزراء والقضاة والضباط من كلّ الأطياف الحاكمة بتقاسم طائفي (نسبة إلى الطائفة) للغلّة دون المسؤولية. لن تسجن الدولة اللبنانية كلّ رجالاتها المتورّطين في الإهمال المزمن الذي أدى إلى الانفجار، كما أنها لن تهمّ إلى التوزيع العادل للخسائر المصرفية بعد ذلك. إن كان أداء الدولة مؤشراً إلى شيءٍ فهو أن «الانفجارات» ستتوالى وقد يبدو للبعض في المستقبل القريب أن ما قبل «الانفجارات» كان زمناً جميلاً. في الواقع لم يحصل في مئوية لبنان الكبير، التي كُلّلت بالانفجار منذ سنتين، زمن جميل جامع. الأزمان الجميلة التي مرّت كانت دائماً جميلةً لقلّة مقابل قبحٍ كثيرٍ للأكثرية. إن كان هناك من يريد للبنان الديمومة فلا بد أن يتبدّل هذا النمط الذي ساد منذ أن اعتلت الأرزة راية الكيان.
هناك اليوم من يعلّق آمالاً على الأمّ الحنون التي أنجبت لبنان الدولة. هذه الدولة كان قوامَها قطاعٌ عام تترجم إقطاعاً تنفيعياً، وقطاعٌ خاص احتكاري «يتمقطع» تجاره بالشعب أباً عن جدّ. لكن حتى ماما فرنسا سئمت أولادها الذين لم يحيدوا عن حبّها يوماً، وترى الخلاص في قطاعٍ ثالثٍ ابتكرته خارج الدولة تتبادل الخدمات فيه مع خدمٍ تنتقيهم بلا ديمقراطية ولا ضحك على الذقون. فرنسا ترى الزمن الجميل القادم لتوتالِها في بحره، ولقلّة «محظيّة» تختارها هي في برّه، وليسعَ الباقون في درّة الشرقَين ليملأوا القطبَين إذا ما استطاعوا إليهما سبيلاً. ما هو يا ترى هوس شاعر وكاتب كلمات النشيد الوطني اللبناني رشيد نخلة بالمثنّى والثنائيات؟ قدره، لعنته أن يكون لبنانَيْن… بم برم…
بعد 4 آب، حتى الأمّ الحنون لفظت دولة لبنان الكبير، فهل يعي من ما زال قادراً على الوعي ويعترف بأن ما من مجدٍ وهميّ أعطي للبنان وينقذ لبنان من كبريائه.