منذ عام 1894 تقف مدرسة القلب الأقدس (فرير الجميزة) في وسط بيروت شاهدة على تاريخ توالت خلاله فترات الانهيار والازدهار. فالمبنى الذي بناه الرهبان الفرنسيون على طراز المدارس الأوروبية منذ 128عاماً، شهد مختلف الحروب والأحداث التي مرّت على المدينة. تعرّض للدمار مراراً وكان القيّمون عليه يعيدون ترميمه في كلّ مرة، ليعود صرحاً أثرياً تربوياً عريقاً تخرّج منه آلاف الطلاب والطالبات ومنهم ثلاثة وصلوا إلى رئاسة الجمهورية (كميل شمعون، الياس سركيس، ميشال عون).حين تزور المدرسة اليوم، ويطالعك أطفال من مختلف الأعمار يتنقلون بأمان في مخيمها الصيفي في الملعب المظلّل بالأشجار، لا يخطر لك أنها كانت منذ عامين فقط في حالة دمار هائل، وأن هذه المساحات كانت مليئة بالركام وحطام الأبواب والنوافذ. فموقع المدرسة القريب من مرفأ بيروت، جعلها إحدى أكثر المدارس تضرّراً من انفجار الرابع من آب حيث تداعت بعض جدرانها ولحق الدمار معظم أجزائها.

لحظة الانفجار
«كنا أربعة أشخاص في الإدارة وكان هناك شبان آخرون في الملعب بعد انتهاء الدوام ومغادرة تلاميذ أحد الصفوف الصيفية» يخبرنا أليخاندرو نشار، أحد الموظفين الإداريين في المدرسة الذي كان لا يزال في حرمها عند وقوع الانفجار وأصيب بجروح في رأسه ويديه «لم يسلم أي شيء في المدرسة، فجأة ملأ الركام المكان وصارت الأبواب والنوافذ وكلّ محتويات القاعات على الأرض» يضيف نشار وهو يستذكر تلك اللحظات التي ظنّ خلالها أن المدرسة لن تعود أبداً إلى ما كانت عليه: «انهار كلّ شيء حولنا، تداعت الجدران الفخارية التي تفصل بين الغرف، وأصبحت قاعات التدريس مساحة مفتوحة مليئة بالركام، وكان الغبار والزجاج المتناثر في كلّ مكان. شعرنا جميعاً بفقدان الأمل ولكننا بعد استيعاب الصدمة قرّرنا بدء العمل». كان نشار من الأشخاص الذين واكبوا أعمال إعادة الإعمار في المدرسة منذ بدء العمل التطوعي لرفع الركام إلى عودة المدرسة للعمل واستقبال التلاميذ. «توافد المتطوّعون منذ الأيام الأولى من طلاب وخريجين ومعلمين وأعضاء الكشاف التابع للمدرسة، إضافة إلى بعض الجمعيات وسكان المنطقة، لإزالة الأنقاض وتنظيف الزجاج المحطم». كان الإقبال على المساعدة الميدانية ملفتاً بالإضافة إلى بعض المساعدات المالية الفردية من الأهالي والجمعيات. ولكن العمل الجدي بدأ لاحقاً مع ورشات العمل المكثف مع المتعهدين والمختصين وفرق الصيانة: «كنا نصل الليل بالنهار حتى تمكنت المدرسة من استقبال الطلاب في الموعد المحدّد لبدء العام الدراسي، ولا يزال العمل جارياً حتى اليوم في بعض الأقسام مثل قاعة المكتبة التي نعمل حالياً على إعادة تأهيلها».

التلاميذ يساعدون مدرستهم
لم يستوعب التلاميذ الذين تنادوا للمساعدة في تنظيف مدرستهم حجم الدمار الذي شاهدوه، هم الذين لا يزال بعضهم حتى الآن يعاني من تبعات صدمة الانفجار. «كان الأمر مرعباً» تقول سينتيا التي لا تزال تذكر بالتفاصيل لحظة وقوع الانفجار وإصابة والديها بجروح تشكر الله مراراً أنها كانت طفيفة «حين رأيت صور المدرسة شعرت بأن العالم ينهار من حولي ولم أجرؤ على الذهاب مع زميلتي لرؤيتها» تقول مشيرة إلى صديقتها التي أخبرتنا كيف توجهت مع مجموعة من الرفاق إلى المدرسة للمساهمة في رفع الركام وكيف كان المشهد محزناً ولكنه حفزهم على جمع بعضهم البعض لتقديم ما يمكنهم من مساعدة «رأيت جدار صفي مهدماً والكراسي والطاولات التي قضينا سنوات عليها محطمة على أرض الملعب. أخافني أن أتخيل لو كنا داخل الصف لحظة وقوع الانفجار، وكانت المساعدة التي قدمناها أقل ما يمكننا فعله لإعادة مدرستنا إلى ما كانت عليه».

عام دراسي في موعده
عودة المدرسة مع بدء العام الدراسي كانت تحدياً كبيراً بالنسبة للقيّمين عليها، ويؤكد مدير المدرسة نقيب المعلمين رودولف عبود أنهم ربحوا هذا التحدي وتمكنوا من إطلاق العام الدراسي في موعده رغم حجم الأضرار الكبير: «أصيب ستة من الموظفين بجروح وشملت الأضرار المادية حوالى 80% من المدرسة ولا سيما في مبنى الروضات الأكثر مواجهة لعصف الانفجار. كان موعد افتتاح العام الدراسي مقرّراً في أيلول فحددنا أولوياتنا وبدأنا بإصلاح الطوابق التي ستستقبل التلاميذ وتمكنا من افتتاح العام الدراسي في موعده قبل أن نضطر إلى الإقفال مجدداً بسبب جائحة كورونا». ولا ينسى عبود أن يذكر المتطوعين الذين كانوا يتواجدون في المدرسة كل يوم بالمئات يتقاسمون المهام لإنجاز العمل بأسرع ما يمكن. «تابعنا مسيرة الترميم بعد الإقفال القسري ولا تزال الإصلاحات مستمرة حتى اليوم وكان آخرها تجهيز كنيسة المدرسة
التاريخية والمسرح الذي ساهمت إحدى الجمعيات في ترميمه ونحن تابعنا العمل من ناحية الصوت والكراسي والتفاصيل الأخرى».

مبنيان أثريان
ويلفت عبود إلى أن مديرية الآثار كانت تأتي وتكشف على سير العمل، ذلك أن اثنين من مباني المدرسة مصنفان كمبان أثرية وكان يجب بالتالي ترميمهما بمواصفات معينة ما تطلب وقتاً وعناية خاصة لإعادة كل شيء بأقرب ما يمكن لما كان عليه.
وعن المساعدات التي تلقتها المدرسة يقول عبود إنها أتت بشكل أساسي من مركز الرهبنة الرئيسي في روما، وبفضل هذه المساعدة بدأ العمل لتجهيز قاعات التدريس في المرحلة الأولى، كما تلقت المدرسة، مثل كلّ المدارس التي تضرّرت من الانفجار، مساعدات من السفارة الفرنسية لإعادة الإعمار. «كانت ميزانيتنا متواضعة، واستخدمنا المساعدات التي وصلتنا في البداية لإعادة الأقسام الأساسية إلى العمل، ثم بدأنا بالتحسين بحسب المساعدات التي تصلنا من الرهبنة تباعاً ونعمل حالياً على معالجة التشققات في بعض واجهات المبنى». ويشير عبود إلى أن بعض الجمعيات قدمت مساعدات أيضاً، إن لجهة المتطوعين أو للمساهمة في إصلاح أضرار معينة كالزجاج مثلاً. عبود مرتاح لتجاوز المدرسة هذه الكارثة وعودتها إلى ما كانت عليه، لكنه يشير إلى أزمات أخرى عصفت ولا تزال بالقطاع التعليمي، من أزمة كورونا التي ألحقت ضرراً تربوياً بالتلاميذ يكاد لا يقل عن أضرار الانفجار المادية، إلى الأزمة الاقتصادية التي كان قطاع المدارس الخاصة من أبرز ضحاياها. وتجهد مدرسة القلب الأقدس في هذا الإطار للموازنة بين حاجات المدرسة وقدرات الأهالي، هي التي يشهد لها كثيرون من هؤلاء بحرصها على مراعاة أوضاعهم المادية: «انتقلنا من أزمة الانفجار والدمار والإعمار، إلى أزمة التكاليف ورواتب المعلمين والأقساط على أمل أن نتجاوزها هي الأخرى».