أي فنّ يحتاج حيال المآسي والفجائع من أيّ نوع، إلى مسافة زمنيّة كي لا يقع في فخّ المباشرة والانفعال والعواطف المسطّحة، سواء في الفنّ ﺍﻟﺘﺸﻜﻴﻠﻲّ أو الأدب أو الشعر، وكلّ فنّ تعبيريّ آخر. هذا ينطبق أيضاً وخصوصاً على انفجار الرابع من آب الذي يفوق الخيال هولاً وفجيعةً. وبالتالي هو يحتاج إلى تأمّل مديد وتروٍّ وجداني بهدف التعبير عنه بعيداً عن الانفعال الآنيّ الذي يعرّضه للمباشرة القاتلة للفنّ، إن لم نقل في بعض الحالات إلى المزايدة و«المتاجرة» وبذل ماء الوجه مع أهالي الضحايا المفجوعين وسكّان المدينة المصابين بأجسادهم وبيوتهم وأرزاقهم. موت ودمار يفوقان الوصف. لكن مهلاً، ما هكذا يكون التعبير تحت وطأة الحدث، ولو بعد حين، فالأمر يستلزم ربما سنوات ليجرؤ فنّان على تناوله والتعبير عنه في لوحة أو منحوتة أو أي ميدان فنيّ تعبيريّ آخر.مع ذلك، لا بدّ في الذكرى الأليمة اليوم من استعادة بعض الأعمال التي تناولت الحدث الجلل. رغم تحفّظنا عن عدم التراجع (recul) واتخاذ المسافة الزمنية الضرورية، نقدّم في هذه الاستعادة أعمالاً تشكيليّة لفنّانين جازفوا بعدم التروّي والانتظار، فأنجزوا لوحات ومنحوتات يُظهر بعضها رؤيا أبوكاليبتية تشبه في بعض جوانبها مشهد نهاية العالم.
لدينا، على سبيل المثال لا الحصر، معرض عمر فاخوري «أشياء وأشياء أخرى». شاهدنا في لوحاته سيارات مهشّمة، مقاعد محطّمة، صوفا ممزّقة، شوارع مكسوّة بالزجاج، نوافذ معلّقة بين طبقات الأبنية، ثقوباً هائلة في الجدران، بقايا أشياء حميمة خلّفها الناس وسط الفاجعة. يهتم الفنان بأمور صغيرة وأشياء مهمّشة خسرها الناس في الانفجار. نقع في لوحاته على أوانٍ وسلالم وكراس بلاستيكية ودمى أطفال معلّقة على شجرة وأسطوانات وبقايا نظارات ومنافض سجائر. كأنّ فاخوري حين يرسم الخراب ببشاعة تفاصيله، يسعى إلى «جمالية البشاعة» فنيّاً. هو لا يرسم طبيعة جميلة ولا وجوهاً آسرة، بل يسير على خطى رسامين وشعراء وسينمائيين وفوتوغرافيين اشتغلوا على «جمالية البشاعة» إنْ في الفن التشكيلي أو في الشعر أو في السينما والمسرح. مع أعمال فاخوري، نحن أمام «معرض الجراح». يرسم جروح المدينة وانكساراتها، تفاصيلها وجزئياتها، صمتها ودوّيها واهتزازاتها، ما بعد الانفجار.

«كنبة في غرفة» (أكريليك على كتّان ــ 110 × 90 سنتم ـــ 2021/2022)

جوزيف حرب نحت من جهته الأيادي والأرجل والرؤوس المبتورة داخل مكعّبات وأوعية زجاجية تحيلنا توّاً إلى ضحايا انفجار المرفأ وما أحدث من مآسٍ في البشر والحجر. علماً بأنّ الواقع يغلب التعبير الفنّي في حدث جَلَل مماثل. لوحاته تُحاكي فكرة الوحش الذي يفترس حياتنا ويومياتنا في الوطن المنكوب بمآسٍ شتّى، ليس آخرها انفجار المرفأ (التيمة الطاغية على المعارض في الفترة الأخيرة!). يرسم حرب قوّة متمثّلة في ثيران هائجة. تتداخل أجساد أفراد ومجموعات معرّاة كأنّها ترمز إلى تلاصق حميميّ، صافٍ، حالم. وفي لوحات أخرى، تتشلّع الأجساد وسط غرائز القتل والعنف، في ظل الحرب والدمار. هنا تحديداً، ترسم ريشة جوزيف حرب وفرشاته خطوطاً وألواناً ورؤى، ضمن كيمياء لافتة شكلاً ومضموناً. ينجح في إبلاغ رسالته الإنسانيّة والفنيّة المتماسكة تقنياً وجمالياً. وهنا يظهر إلى حدّ بعيد المعنى المقصود بـ «جماليات العنف». وإحدى منحوتات حرب تحت عنوان «ألِف» تجسّد ساقاً مبتورة ترمز إلى جسد مكتمل وإلى موت وانبعاث. إنّه واقع شاذّ، انحرافيّ، عبثيّ، يملأ «الزمن المعلّق» بل نَفَس الحياة المقطوع: كلاب تنبح بالتزامن مع صراخ البشر، أجساد مجزأة فقدت سوية هيئتها الإنسانية، وألعاب بلا معنى، حروف مخدّرة... تجتمع كلها في مكان مصدّع وزمن مشوّه حيث مظاهر الحياة الغريبة خارج المألوف. الفوضى تغدو نظاماً، والعبث يسحق الفعل الإبداعيّ.
عند غادة جمال لا تتبدّل المقاربة التشكيلية، كذلك اللونيّة والنفسيّة. لا تغيب الوجوه (كما في المرحلة السابقة)، لكنّ التجريد واختزالاته ماثلة في هذه المرحلة أيضاً، مع استرسال في الإيحاء بالمجهول والخوف اللذين يفضيان إلى اليأس، من خلال ضربات لونية وخطوط مبهمة يغدو اللون فيها مثل المرحلة السابقة، أداة تعبير أساسيّة. يخيّل إلينا أنّ غادة جمال تربط تجربتين وزمنين ومكانين متباعدين. أمّا مارون الحكيم فرسم أبنية بيروت المبعثرة ركاماً، حيث تضيق المساحات وتخترق ألوانها القاتمة آثار الحطام والأبواب والنوافذ المخلّعة. خرابٌ وتشظّ وثقوبٌ كأنّ عيناً بشريّة تطلّ منها شاهدةً على الفجيعة المأساة.
لا تنجو أعمال ماهر العطار المباشرة من الوقوع في فخّ الكليشيه، ففوتوغرافيّاته تعكس نظرة إلى واقع بيروت الراهن والمُغرق في انعدام اليقين. ويرى أنّ «بين الثورة عام 2019 والانهيار الماليّ وكورونا وانفجار المرفأ والانتخابات الأخيرة، حان الوقت لعرض هذه الصور التي تجمع بيروت المنهكة إلى بيروت المجد»، فبيروت المدمّرة والمعاد بناؤها مراراً وتكراراً، ما فتئت تُقاوم وتُصارع من أجل البقاء. و«بيروتوس» هذه تتجسّد لدى العطّار في امرأة ترسل المعاني المتفرّقة من دمار وحرمان وهجرة...