على بعد سنتين من انفجار الرابع من آب، لا يبدو أن الحركة الأدبية ولا سيما في الرواية والشعر (باللغة العربية على الأقل) كانت على مستوى الحدث. عدد الإصدارات لم يتجاوز أصابع اليد الواحدة؛ فإذا كان للشعر نظرية تدعوه إلى أخذ مسافة تأملية من الأحداث لئلا يوصم بشعر المناسبة أو ردة الفعل، فلماذا استنكفت الأقلام الروائية عن الغوص في أحشاء الحدث الكبير لا سيما أنّ هول الفجيعة ودراميتها وقصص الضحايا والدمار على وجه المدينة يوفر المادة الخام للرواية التي يمكنها الإفادة من اليوميات والشهادات وحكايات من عاشوا أهوال وتبعات كارثة انفجار نيترات الأمونيوم ومعها البلد المتفسّخ في تناقضاته وتحويلها إلى سردية إنسانية تطغى على ترّهات السياسيين وتفاهاتهم في التعاطي مع الكارثة. لماذا يبدو الكتّاب اللبنانيون باللغة الفرنسية أكثر نشاطاً في نقل المأساة إلى الضفة الأخرى من المتوسط؟ إن استعراضاً بسيطاً للأدب المتعلّق بانفجار المرفأ يظهر تفوّقاً واضحاً للروائيين الفرنكوفونيين في نقل تجاربهم وحكاياتهم من قلب المدينة المنكوبة، فهل الهرب إلى لغة أخرى هو الحل أمام لغة أخرى صارت مستنفدة ومستهلكة وممجوجة في تعاطيها مع النكبات لكثرتها وتتاليها كأن هؤلاء الفرنكوفونيين لا يدينون بأحد إلا لتجاربهم في «قلب الحدث»، أم أن رغبة الآخر في الضفة الأخرى إلى فهم مآسينا هي حاجة ملحة وسريعة له ولجهازه السياسي والنقدي والثقافي أكثر من حاجتنا نحن إلى تشريح ذواتنا والوقوف على ما أوصلنا في تلك الظهيرة من آب إلى الطعنة في القلب التي سال فيها دم كثير. في ما يلي استعراض لأبرز الإصدارات الفرنكوفونية والعربية حول المناسبة.دخلت هيام يارد (1975) الموسم الأدبي الفرنسي عام 2021 برواية قوية («انفجارات داخلية» ــــــ Implosions ـــــ دار إكواتور) تستعرض قصة عائلة تكون الراوية فيها الشخصية المركزية كأم وكاتبة وزوجة، حيث تختلط يوميات الكاتبة «البوفوارية» وجلسات عرض مشكلاتها الزوجية على الطبيب النفسي والكتابة التي تواسيها في التعبير عن كل هذه التشظّيات، مع ذروة التناقضات التي مثّلها الانفجار الذي مزّق روح بيروت الجريحة، وغربة الكائنات في زمن تستوجب المأساة فيه مساحة أكبر من الدفء والعلاقات الإنسانية، وسوء التفاهم الطويل مع الزيف الذي يلطخ وجه العالم.
أما الروائي الفرنكوفوني شريف مجدلاني (1960)، فقد كان السبّاق في صياغة ذكريات الكارثة وما سبقها من انتفاضة اللبنانيين على الفساد والمحسوبية والزبائنية على شكل يوميات «تتأرجح ما بين كتابة الواقع والجذور التاريخية للكوارث التي جعلت هذا الواقع على صورة الكابوس». نعثر في «بيروت 2020» (أكت سود) على الكثير من التفاصيل الذي تدخل في يوميات المدينة وذكرياتها التي تجرّأ عليها الدمار، فبينما كان أولاد الراوي مثلاً يساعدون في رفع الأنقاض وتنظيف المنازل بعد الانفجار، يتم توجيههم إلى توضيب عيادة لطبيب ليكتشفوا أنها ظلّت على حالها، مغلقةً لأربعين عاماً. «الكتابة ساعدتني على التماسك أثناء أشهر الانهيار. لقد ساعدتني حتى بصورة أكبر بعد انفجار الرابع من آب. وزوجتي أيضاً خاضت التجربة بأن كتبت معاناتها الذاتية. ومن ثمّ غطّت بالكتابة تجارب الآخرين بعد الانفجار. هذا دليل بالنسبة إلى الجميع، أن نتكلم، ونروي، ونكتب هو أمرٌ أساسي»، يقول مجدلاني في حوار سابق معنا حول الرواية.
«أما وقد تدمّرت الأهراءات، كل شيء كان ممكناً، لا شيء سيمنع بيروت من أن تغور في الظلمات. أخرجت خريطة للمدينة. كانت مبسوطة على الأرض منذ أسابيع. أقيس المسافات. منزل أهلي هو على بُعد 825 متراً من أهراءات المرفأ. منزل جدتي، في شارع باستور، هو على بعد 650 متراً. سحَر، كانت على الرصيف. لقد صوّرت المشهد الأخير». أرادت الكاتبة وفنانة الغرافيكس اللبنانية المقيمة في باريس لميا زيادة (1968) أن تعطي اسماً ولوناً لوجوه ضحايا الانفجار، في كتابة هي أقرب إلى استعمال الدمع منه إلى الحبر في تدوين الحكايات التي وصلت أصداؤها إلى مسامعها في مقاربة تجمع النص بالصورة ويستعير من تقنية الريبورتاج بما يسمح بعرض الكثير من القناعات السياسية والاجتماعية مع إعطاء صوت الضحايا مساحته على طول السرد. في كتاب «مرفئي في بيروت» (Mon port de Beyrouth ـــ منشورات P.O.L) الذي جاء استجابة لدعوة صحيفة لوموند للكاتبة للشهادة على الحدث الكبير استغرقت كتابته أشهراً ستة، استنطقت الكاتبة كل صورة، أو شريط فيديو، أو تفصيل صغير في وسائل التواصل لمواكبة المناسبة وموضعتها في سياق تاريخي مستند إلى الأرشيف لأخذ الدروس الإنسانية والسياسية منها.
رواية «متلازمة بيروت» (Le syndrome de Beyrouth ــ دار بلون) لألكسندر نجار (1967) تستعرض التاريخ اللبناني الحديث (2000-2020) عبر عيون أميرة، المقاتلة الكتائبية السابقة التي خرجت من بيروت الحرب الأهلية عام 1984 كمقاتلة، بناء على رغبة والدها، وعادت إليها كمراسلة لجريدة «النهار». شكّلت فترة الابتعاد عن البلد الممزق بالحروب الصغيرة والمتاريس وخطوط التماس المسافة النقدية اللازمة لأميرة للخروج من هوية فئوية ضيقة نحو هوية أرحب تتشارك فيها مع شريحة أوسع من مواطنيها آمالهم في بناء وطن يتعالى على جراح الأمس. الإبحار الخيالي في ماضي «أميرة متري» وحاضرها وأحلامها وخيباتها بقالب سردي تميز به صاحب «مدرسة الحرب» هو غوص في قلب صراعات المنطقة الواقعة على فالق الزلازل ومحاولة أخرى لفهم البيت بالمنازل الكثيرة على حد تعبير المؤرخ كمال الصليبي.
الشاعر عقل العويط (1952) كسر جدار الصمت في تناول كارثة المرفأ شعراً من خلال إصدارين اثنين: كتاب «البلاد» الصادر أخيراً عن «دار هاشيت/ نوفل» صدّره العويط بما يلي: «في هذه القصيدة الطويلة، يرتفع الصوت فوق العلَم، ويرتفع العلَم فوق المأساة...ما أطيبَ المشانقَ والأحكامَ العرفيّةَ في الحكّامِ في السلاطينِ في الطغاةِ في العملاءِ في الخَوَنةِ في الانتهازيّينَ في ماحِقِي بيتِ لبنانَ»: الكتاب الذي يتضمن قصائد بالعربية مع ترجماتها إلى الفرنسية يستكمل ما بدأه العويط من احتجاج في كتابه السابق «الرابع من آب 2020» (دار شرق الكتاب) في نص يتقصد فيه الشاعر التناص مع قصيدة ت. س. إليوت (الأرض اليباب) ويفتتحه بصيغة اعتراضية: «النفيُ هو اليقين الوحيد، ونيسان ليس أقسى الشهور. ليس صحيحاً أنّ وجع بيروت اكتمل، مثلما يكتمل قمرٌ في قيظ آب. يكتمل وجع الكوكب في منتصف الليل، على منوال الوجع الذي يعتري الذهب في منتصف قلبه. كان ينبغي لليباب الذي يوجع اليابسة ومن عليها، أن يتراءى لك، بعد مئة عام، في مكانٍ من هذا الكوكب يُدعى بيروت، لكن الرؤى لا يكتمل خرابها، ولا الأوجاع تكتمل، وإن ظُنّ اكتملت ذات يوم وفي ذات لحظة. ما يدركه الشِعر ليس هو الشعر كاملاً».
شريف مجدلاني كان السبّاق في صياغة ذكريات الكارثة


الروائية اللبنانية جمانة حداد (1970) كانت السبّاقة في تناول انفجار الرابع من آب في أول رواية («القتيلة رقم 232») تستلهم أحداث ذلك اليوم الدامي. وقد قدّمت «دار هاشيت/ نوفل» عمل حداد الأخير بما يلي: «يمكن القول إن هذه هي الرواية اللبنانية الأولى عن انفجار الرابع من آب 2020. الأحداث الرئيسية تدور قبل ساعة من الانفجار الرهيب، لكن عمر معاناة الضحايا قد يكون أطول من ذلك بكثير. في رواية تقوم على تصميم متقن للوقت، نقرأ سرداً لقصّتين، تجمعان الكثير من الأبطال، والقليل منهم أيضاً: الزوج الذكوري والمتسلّط، ميشا الزوجة الضحية لزوجها وللنظام، وعباس، الذي يسمّي نفسه هند ويعلن نفسه امرأة. خلال أحداث 17 تشرين الأول 2019 في لبنان، التقت ميشا بهند، وجمعتهما صداقة سمحت لهما بتبادل الألم، ولكن وفرّت مساحةً للأمل أيضاً. لكن، فجأة، حدث الانفجار وانتهى ما لم يكد يبدأ».