«نحن لسنا بحاجة إلى قباحة من هذا النوع لتذكّرنا بانفجار الرابع من آب». بهذه العبارة، يفتتح المعمار رهيف فياض حديثه عن مبنى الأهراءات في مرفأ بيروت. يملك فياض الكثير من الأسباب التي يدعم بها رأيه، إن كان في ما يتعلّق بذاكرة المكان وضحاياه، أو في ما يتعلق برؤيته لتلك العمارة، دورها، وعلاقتها بالمدينة وصورتها.طوال فترة ما بعد الانفجار، كان فياض منشغلاً بالكتابة التي استرجع بها «الانفجار الرهيب»، لذلك لم يكن يملك الوقت للاطّلاع على النقاش الدائر حول مصير مبنى الأهراءات أو ما تبقّى منه. لكنه في الفترة الأخيرة، استعاد تلك الأحاديث ونسج على أطرافها موقفه من «العمارة». وهو إذ يفعل ذلك، يقسّم موقفه إلى جزءين: الجزء المتعلّق بالحضور، والجزء المتعلق بالمرفأ ككلّ.

صورة العَمود الأحمر
يعود فياض عامين إلى الوراء، يوم رأى من شرفة منزله عموداً أحمر يلامس السماء مترافقاً مع صوت قوي. لم يعرف يومها كيف سقط أرضاً، عن كرسيّه، وفي يده جذور نبتة ظنّ أنه يتشبّث بها. بعد استيعاب الصدمة، خرج إلى الشارع تابعاً العمود المتسلّل إلى السماء ومشى على الزجاج حتى وصل إلى المرفأ.

فياض: زوروا أمكنةً أصابها 4 آب بالقتل (هيثم الموسوي)

إلى اليوم، لم ينسَ فياض ما حدث، ولا يظنّ أن «أحداً سيفعل ذلك»، منطلقاً من فكرة «الحضور القاسي لـ4 آب في تفاصيل حياة كلّ منا». ولذلك يرفض اختزال كارثة بهذه الفظاعة في «ما تبقّى من هذا الهيكل القبيح»، معتبراً أن الدعوة إلى إبقاء الأهراءات وسط المرفأ كي نحفظ ذاكرتنا «لا معنى لها، لأننا ببساطة لسنا بحاجة إلى قباحة من هذا النوع لتذكّرنا بـ4 آب».
في مسألة الحضور، يدعو فياض من يعنيهم الحفاظ على الذاكرة إلى زيارة أمكنةٍ أصابها الرابع من آب بالقتل. ويذكر منها على سبيل المثال «شارع ويغان حيث المحالّ لا تريد أن تفتح أبوابها، وهي للمناسبة ليست مقفلة وإنما مصفّحة. ومن هناك، اذهبوا إلى شوارع الجميزة وباستور وعبدالله داغر ومار مخايل، فكلها أماكن مصابة وتكفي لتحفيز الذاكرة».
يبدو فياض حاسماً في مسألة الحضور، وهذا يعني بالنسبة إليه «أننا لسنا بحاجة إلى مكانٍ واحدٍ يذكّرنا بما هو محفور في حياتنا، وبالتالي هذا البكاء وهذا الافتعال لإيجاد مسوّغات للحفاظ على هيكل قبيح هما عبارة عن فكر عتيق لا علاقة له بالمشاعر الحقيقية، لأن المشاعر الحقيقية هي ما يتركه فينا الانفجار من أثر وليس في شكل أهراءات تحترق ولا يستطيع أحد أن يُطفئها».
بعد حرب 2006 رفضت الإبقاء على مبنى يذكرنا بالعدوان الإسرائيلي


من باب تأكيد الحضور، يسترجع فياض حرب تموز 2006، والنقاش الذي دار على هامش الحرب عندما هُدمت حارة حريك. «يومها أيضاً خرج من يطالب بأن نبقي مبنى وسط الدمار ليذكّرنا بالعدوان الإسرائيلي، وقد استفزّني ذلك الطلب فكتبت بأننا لسنا بحاجة إلى مبنى يذكّرنا بالعدوان الإسرائيلي (...) يا أحبائي ابنوا وقاوموا ولا تتركوا فضلات تسيء إلى جمال الأمكنة من دون جدوى». واليوم، يقول فياض الشيء نفسه «لا تشتّتوا آراء الناس ولا تثيروا عواطفهم من دون فائدة».

أزيلوا هذا المارد
دعوة فياض التالية هي لإزالة هذا «المارد» لا لقبحه فقط، وإنما أيضاً لإساءته «إلى صورة المدينة وعمل المرفأ وإلى حسن استخدام مساحاته». والأولى، برأيه «العمل على إزالة ما تبقّى من هذه الأهراءات وإعادة تصميم المرفأ وترتيبه بطريقة عصرية، انطلاقاً من مخطط توجيهي يأخذ في الحسبان استعمال المجالات انطلاقاً من الحاجات الحالية، فنحن نصدّر قليلاً ونستورد كثيراً ومعظم المستوردات في الحاويات، والحاويات تتطلب مساحات وهي تدفع ثمناً لقاء وجودها هناك». من هنا، «كلّ شيء يدفعنا إلى التفكير باستعمال المرفأ من دون وجود هذه الأهراءات». ويبرّر هذه الدعوة إلى انتفاء «الوظيفة» التي كانت تؤديها هذه الأهراءات التي وُجدت هناك «للتخفّف من أكلاف نقل الحبوب إلى أماكن بعيدة ولذلك بُنيت كما كلّ الأهراءات في العالم بالقرب من المكان الذي تصل إليه الحبوب، ولو لم تصل الحبوب إلى هناك لما بُنيت… تماماً كما معامل شكا التي وُجدت على مقربة من المواد الأولية». ولذلك، يدعو فياض للفصل ما بين القضية الحقوقية وبين قضية الاستثمار والانتفاع.
إلى تلك الحدود، يحصر فياض وجود مبنى الأهراءات. أما وقد انتفى هذا الوجود فلا مبرّر لإبقائه، إذ «لا دور جمالياً له على مستوى المرفأ، ولا سبب بصرياً لبقائه خصوصاً أن لا شيء يربطه بالمدينة بوضعه الحالي».