تثير مواقف البطريرك بشارة الراعي، وقبلها بيان مجلس المطارنة الموارنة، مخاوف وهواجس من الدور الذي تلعبه الكنيسة المارونية في هذه المرحلة الخطيرة التي يمر بها لبنان والإقليم، في ظل مخاض ولادة نظام دولي جديد، زادته احتداماً الحرب العالمية الثالثة الجارية في الساحة الأوكرانية. إذ ليس بريئاً استغلال حادثة تحقيق عادية مع مطران، لها طابع جنائي، لإعلان النفير الكنسي واستحضار خطاب مطلع القرن العشرين. لا بل أن الدفع في عملية الاستغلال إلى الحد الأقصى، من خلال تبني شعار «المقاومة هي إرهاب»، يثير الشكوك حول تورط أوساط كنسية محيطة بالبطريرك في مشروع حصار المقاومة والتضييق عليها خدمة للعدو الصهيوني.ما جرى مع المطران موسى الحاج، لجهة مصادرة أموال ينقلها من قلب الكيان الإسرائيلي، إجراء قانوني طبيعي يمثّل الحد الأدنى مما هو مطلوب وممكن في مثل هذه الحالات. وما بيّنته التحقيقات لجهة مصدر هذه الأموال والجهات المستفيدة منها، يشير إلى دور للموساد والعملاء المقيمين عند العدو في تجنيد وتمويل عملاء في لبنان وتشغيلهم ضد المقاومة، واستخدام الثوب الكنسي لتسهيل أعمالهم.
وضع البطريرك بكركي كلها في مواجهة مستغربة مع القانون وليس القضاء، أو بعضه، كما توحي المطالبة بإقالة مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية. فمجلس المطارنة يرفض سيادة القانون على الأساقفة من حيث المبدأ، وهذا موقف مرفوض ومدان خصوصاً أنه يصدر عمن لا يتوقف كل يوم أحد عن الوعظ بالدولة والقانون والمؤسسات والدعوة لعدم تسييسها! والأخطر هو السعي لاغتنام الفرصة من أجل تشريع التطبيع مع العدو خلافاً للقانون في موقف لا يُشَرف أياً من الكنائس المشرقية. وإذ يروج أن الكنيسة إنما تقوم بعمل إنساني لمساعدة المحتاجين، الذين أفقرتهم السلطة السياسية، بالمال والدواء من متبرعين، هم بمعظمهم، عملاء للعدو، فإنما يهرب إلى الأمام ويحتقر اللبنانيين ويستهتر بعقولهم.
فالبطريرك نفسه هو من ضرب طوقاً دفاعياً طائفياً حول رياض سلامة الذي يتحكم بكمية الدولارات اللازمة لاستيراد الدواء، وهو من يحمي جمعية المصارف التي تحتجز أموال اللبنانيين وتدفع بهم إلى العوز، ويغطي الأقساط الخيالية للمدارس الكاثوليكية، و«يحتجز» الممتلكات الشاسعة للكنيسة ويمنع توظيف قسم منها واستثماره لصالح أبناء رعيته، سكناً أو تعليماً أو طبابةً أو تشغيلاً. وهذا البطريرك، الذي ينقل ممثله أموالاً للبنانيين من طائفة أخرى بروح متعالية على الطائفية، لا يظهر تعاملاً مماثلاً مع أبناء الوطن في الداخل ما يزيد من الشكوك حول أصل التطوع لنقل هذه الأموال. والبطريرك، الرافض لسياسة الفاتيكان ولمقررات السينودس، يجرّ الكنيسة إلى موقع العداء لأبناء بلده وشركائه في الوطن كما يجرّها إلى إثم التطبيع مع العدو الصهيوني الذي يبدو أنه يراهن عليه لاستعادة مجد ضاع، كان يقنع نفسه أنه قد أعطي له.
وإننا إذ ندعو أهل الكنيسة المارونية الوطنيين والشرفاء، لوضع حد لسياسات «المؤسسة المارونية العميقة» ورهاناتها الإنتحارية واعتماد التعقل، ندعو النخب المسيحية للمساهمة في وقف هذا الإنزلاق إلى أدوار غير وطنية تتعارض مع مصالح المسيحيين واللبنانيين في حفظ وحدة بلدهم وتماسكه واستقراره وحماية عناصر قوته.
لقد مرّ قرن كامل على «إعلان لبنان الكبير» الذي رفضت الكنيسة المارونية أن يضم وادي النصارى لغلبة الأرثوذكس فيه، وحصلت خلاله تطورات كبرى وتاريخية. لكن إصرار البعض في هذه الكنيسة على تجاهل طبيعة هذه التطورات وآثارها ونتائجها، بات يهدد هذا «اللبنان» بوجوده نفسه. وما لم تتشكل قناعة راسخة بأن تغيّر أدوار الجماعات في التاريخ ظاهرة اجتماعية طبيعية، لا ينبغي معاندتها، سيؤدي التمسك بدور لم يعد ممكناً ولا مقبولاً إلى نتائج عكسية.
آن الأوان لاعتراف الكنيسة بأن السياسات السابقة لم تعد مجدية والتوقف عن زج المسيحيين في مغامرات بائسة. فلا الحياد الكاذب ينفع ولا التآمر على المقاومة وركوب قطار التطبيع يفيد. وحده الخيار الاستراتيجي الذي أرساه العماد ميشال عون ويتبنّاه التيار الوطني الحر يحمل أفقاً واقعياً للنجاح في حماية البلد ويحفظ المسيحيين ودورهم في لبنان والمنطقة. وهذا الخيار لا ينبغي أن يبقى فئوياً، إذ أنه أكبر من قدرة حزب بعينه. فهو تعبير عن ضرورة تاريخية تتمثل، خصوصاً، بدعم المقاومة وإعادة الاعتبار السياسي للمسيحية المشرقية بحيث يعي المسيحيون أنهم جزء أساسي في هذا المشرق الكبير ومن همومه وتحدياته وتطوره وإنمائه. فموئل المسيحيين هو هذا الشرق، وليس الغرب الذي تخلى عنهم ويحاصرهم في فلسطين والعراق وسورية، كما لبنان.
في هذا السياق نسجل، بكل أسف، رفضنا للبيان الأخير الصادر عن التيار الوطني الحر والمناقض لأطروحته المركزية وسياساته الوطنية المشرّفة التي عبر عنها رئيسه خلال الحملات الانتخابية وأسهمت في منع انهياره كما خطّط أعداؤه ومن بينهم الكنيسة بتمويل خارجي قد يكون بعضه أتى بـ«حقيبة بطريركية». كما ندعو قيادة التيار إلى مغادرة الموقع الرمادي، والعودة إلى خطاب الرئيس المؤسس، غير المتردد بخياره الوطني بالشراكة مع قوى المقاومة. فهنا يكمن خلاص لبنان والمسيحيين معاً!
ويبقى مجد لبنان صنيعة نضالات وتضحيات أبناء شعبه على طريق التحرر الوطني الكامل.

* شيوعيون لبنانيون