تعرّضت المواقع الأثرية في لبنان للنهب المبكر، وخصوصاً عند نهاية الحقبة العثمانية وبداية الانتداب الفرنسي، غير أن أكبر السرقات كمّاً ونوعاً حصلت إبّان الحرب الأهلية، وتحديداً عام 1981. حينها، تعرض مستودع في منطقة جبيل يضمّ العديد من القطع الأثرية التي جرى نقلها من معبد أشمون في صيدا عام 1979 إلى السرقة من قبل الميليشيا التي كانت تسيطر على جبيل آنذاك. إضافة إلى السرقات المباشرة، تأثرت المواقع والقطع الأثرية اللبنانية سلباً بالحرب الأهلية والاعتداءات الإسرائيلية، ولا سيما على صعيدَيْ الاهتمام والاستكشاف، فبينما كانت المواقع الفينيقية في بلدان أخرى تحظى باهتمام لافت، كانت العديد من المواقع الأثرية اللبنانية مهملة ومستباحة بسبب غياب السلطات وضعف الرقابة، أو تتعرّض لاعتداءات مثل موقع كامد اللوز الأثري الذي تعرّض لأشنع أشكال الجرف من قبل العدو الإسرائيلي.
العديد من القطع سُرقت من حفريات غير شرعية (أرشيف – مروان طحطح)


4% من المسروقات
بلغت حصيلة القطع الأثرية المسروقة التي أحصتها وزارة الثقافة، والتي تمّ وضعها على لائحة ART loss register (مؤسسة مركزها لندن وتملك أكبر قاعدة بيانات في العالم حول القطع المسروقة والضائعة) بحوالى 434 قطعة، لكن الرقم قد يكون أعلى، على اعتبار أن العديد من القطع الأثرية سُرقت من حفريات غير شرعية على الأراضي اللبنانية، وبالتالي تستحيل عملية إحصائها. حتى الآن، تمكنت الدولة اللبنانية من استعادة 15 قطعة أثرية مسروقة، أي أن نسبة القطع المسترجعة لم تتجاوز الـ4% من مجمل القطع المسروقة. رقم متواضع، لكنه ناتج عن عوامل عدة، أبرزها أن عملية استعادة قطع الآثار المسروقة بشكل عام ليست بالأمر السهل خصوصاً مع تمرّس سارقي الآثار وقدرتهم على إخفاء القطع خارج الحدود وتهريبها، ما يدرّ عليهم مبالغ مالية ضخمة. كذلك ساهمت المدة الزمنية الطويلة نسبياً، بين وقت حدوث عمليات السرقة وبين البدء بمسار استرجاع القطع المسروقة، في تعقيد عمليات الاسترجاع وطمس العديد من الحقائق المتعلقة بعمليات السرقة.

استعادة الموزاييك
في هذا السياق، يأتي إعلان وزير الثقافة عن قرب استعادة قطع من الموزاييك تعود إلى العصر البيزنطي كانت قد سرقت خلال الحرب الأهلية. وفي تفاصيل عملية الاسترجاع، تتابع وزارة الثقافة اللبنانية هذا الملف مع مكتب المدعي العام في نيويورك بهدف استرجاع القطع اللبنانية التي هي عبارة عن مجموعة تعود إلى حفريات غير مشروعة جرى إخراجها من لبنان بطريقة غير شرعية، وذلك من خلال اتباع الأصول القانونية ضمن التعاون المستمر مع المدّعي العام في الولاية الأميركية والذي ساهم سابقاً بإعادة قطع مسروقة إلى لبنان عام 2017. يومها، خاضت المديرية العامة للآثار نزاعاً قانونياً في الولايات المتحدة، ولجأت إلى مكتب محاماة أميركي من أجل استعادة قطعة أثرية كانت معروضة في متحف «المتروبوليتان» في نيويورك، كما استعانت بعالم آثار سويسري من أجل إثبات لبنانية قطعة أخرى موجودة في أميركا أيضاً، وبالفعل نجحت جهود مديرية الآثار في إثبات لبنانية القطعة واسترجاعها. كما توجد حالياً في القنصلية اللبنانية في نيويورك قطعة أثرية لبنانية جرى استردادها. ومن أبرز القطع المسترجعة رأس ثور رخامي أبيض يعود إلى عام 360 قبل الميلاد وكان قد استكشف خلال حفريات في معبد أشمون في ستينيات القرن الماضي.

تدابير وزارة الثقافة
وتعمل المديرية العامة للآثار على مراقبة السوق المحلية وتتعاون مع القوى الأمنية كالجمارك وقوى الأمن الداخلي من أجل ضبط قطع الآثار المهرّبة، فضلاً عن متابعة الأسواق العالمية في محاولة لاكتشاف القطع اللبنانية المسروقة وإرجاعها إلى الوطن. وفي هذا السياق يكشف المرتضى أن «أهدافاً مختلفة تقف وراء عمليات سرقة الآثار، فمنها ما يتعلق بمحو الهوية الوطنية وهذا ما جرى تحديداً في الجنوب والبقاع الغربي خلال فترة الاحتلال الإسرائيلي، إذ سعى العدو إلى سرقة الآثار وتدمير المعالم ومحو الهوية، ومنها ما يرتبط بالإتجار غير المشروع بهدف الكسب السريع أو تبييض الأموال أو تمويل المنظمات المتطرّفة».


انقر على الجدول لتكبيره

ويؤكد المرتضى أن «السلطات اللبنانية تكافح عمليات الإتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية من خلال تدابير صارمة كقرار تجميد رخص تجارة الآثار ورخص التصدير، بالإضافة إلى تنظيم عمليات التنقيب الأثري وخصوصاً الحفريات الطارئة والتي تعتبر مصدراً للقطع الأثرية الذي يمكن إساءة استغلاله في حال عدم وجود تشريعات ترعى تنظيمه، ولهذه الغاية تم إصدار قوانين ومراسيم لزيادة إجراءات حماية الإرث الثقافي، مثل المرسوم رقم 3056 الصادر عام 2016 والذي يهدف إلى تنظيم الجرد العام للآثار القديمة المنقولة، أو المرسوم رقم 3057 الصادر في العام عينه، والذي يرمي إلى تنظيم آلية التدخلات الميدانية الأثرية التي تقوم بها المديرية العامة للآثار في مجال الحفريات الوقائية والإنقاذية». أما بالنسبة إلى استرجاع الممتلكات الثقافية المسروقة فهو «يتطلّب إجراءات على المستويين الإقليمي والدولي، كتشجيع التعاون الإقليمي وعقد مذكرات تفاهم إقليميّة لضبط القطع المهرّبة وتنظيم عملية الاسترداد، فضلاً عن إجراء تدقيق في القطع الأثرية المعروضة للبيع في الخارج والتأكد من مصدرها وطريقة خروجها من بلدها الأصلي، بالإضافة إلى نشر جداول القطع المسروقة لحظر بيعها في صالات المزادات العالمية».
أمام لبنان مسار طويل وصعب من أجل استعادة آثاره المسروقة. بدءاً من العثور على القطع المنهوبة في الدول والمتاحف الخارجية، مروراً بإثبات موطنها الأصلي، وصولاً إلى استعادتها بشكل نهائي. قضية تتطلب متابعة حثيثة من أجل استعادة قطع أثرية وجدت في ربوع لبنان آلاف السنين قبل أن تسرقها مافيات استغلت فترة الحرب لارتكاب جرائمها. فهل ينجح لبنان في استعادة آثاره المسروقة بعدما فشل في محاسبة سارقيها؟