لا يصدّق البعض أنّ الحبوب كالقمح والذرة تنفجر وتسبّب الحرائق، كيف يمكن أن يحصل ذلك وهي تُعدّ موادَّ غذائية لا يعدو خطرها سوى التسبّب بالوزن الزائد أو بأمراض متفرّقة؟ لكن لو نظرنا أبعد بقليل، لوجدنا أن الحبوب تُستخدم كمواد أولية لإنتاج الفيول الطبيعي biofuel المستهلَك في بعض الدول كوقود للسيارات. وخلال ثلاثين سنة، وقع أكثر من 500 انفجار في صوامع القمح والحبوب أدّت إلى مقتل 184 شخصاً وجرح أكثر من 600 بحسب أرقام وزارة العمل في الولايات المتحدة. بالتالي هذه الحبوب ليست بالبراءة التي يظنّها البعض، بل هي مصدر تهديد أودى بحياة عدد من العاملين في التخزين حول العالم، والتهديد يتضاعف حيث لا قوانين تنظم طرق التوضيب ومدته.
تُعدّ الصوامع ومستودعات حفظ الحبوب أماكن خطرة تجري داخلها تفاعلات كيميائية غير مقصودة، تحوّل الأغذية إلى ما يشبه المتفجّرات. وعليه، تحرّك المشرّعون ووضعوا قوانين تنظم التخزين ومدته وطرق معالجة الحبوب. وتلزم هذه النصوص القيّمين على الصوامع بإجراءات ليس أقلّها الحفاظ على تهوئة دائمة، ومراقبة الرطوبة، وتركيب أجهزة قياس الحرارة في نقاط محدّدة داخلها. أمّا التحولات الكيميائية الخطيرة فمصدرها الأساسي ما تحتويه الحبوب من مكوّنات تنتمي إلى عائلة السّكريات (مركّبات كربونية).

العملية الكيميائية
نعود إلى لبنان، تحديداً إلى أهراءات القمح المتضرّرة نتيجة انفجار العنبر 12 في 4 آب 2020. تخرج ألسنة اللهب منها منذ أكثر من شهر، بشكل شبه يومي من دون القدرة على إخمادها بشكل نهائي. النيران هي نتيجة لتحوّلات كيميائية طرأت على أطنان الحبوب المتروكة منذ ما يقارب السنتين تحت عوامل طبيعية تجعلها مشابهة لـ»مشاحر إنتاج الفحم» في القرى. لفهم ما يجري، سنستخدم التشبيه السابق في الشرح. تقوم فكرة إنتاج الفحم على تكديس جذوع الأشجار وأغصانها، التي تحتوي على مركبات كربونية معقّدة على شكل أكوام. ثمّ يقوم عامل إنتاج الفحم بطمر كومة الخشب مستخدماً الطين، مع ترك فتحتين أو ثلاث للسماح بدخول كمية محدودة من الهواء المشبع بالأوكسيجين. يشعل النار فيها ويتأكد يومياً من الفتحات كي لا تتوسّع، أو كي لا تتسبّب الحرارة بدخول كمية كبيرة من الهواء تؤدي إلى احتراق الخشب بشكل كامل. فالمطلوب هو الوصول إلى عملية كيميائية تُعرف بالـ»تفحيم»، وهي تقوم على فكرة التفكّك الحراري pyrolysis للمركبات الكربونية من دون الوصول إلى الاحتراق الكامل. هذه العملية تُستخدم منذ آلاف السنين للحصول على الفحم المقاوم للعفن بعكس الخشب، يمكن حفظه لسنوات واستخدامه بشكل سهل للتدفئة وإشعال النار.
الحبوب المتبقّية داخل الأهراءات وصلت إلى مرحلة مشابهة لمشاحر إنتاج الفحم


القمح والحبوب المتبقّية داخل الأهراءات وصلت إلى مرحلة مشابهة كثيراً لـ»مشاحر إنتاج الفحم». شكل الحبوب الطبيعي لا يسمح للهواء بالدخول إلى قلب الأكوام بشكل طبيعي، ويزيد تكوّن العفن على سطح أكوام الحبوب من احتباس الهواء، وعدم تهوئة نقاط متفرقة في الداخل. بالتالي تبدأ عملية التفحم هناك، ومعها ترتفع الحرارة بشكل طبيعي، ويزيد من ارتفاعها عدم وجود تهوئة مناسبة حتى تصل حرارة بعض النقاط إلى 700 درجة مئوية فتشتعل النيران مباشرةً من دون تدخل خارجي. ألسنة اللهب ستبدأ باستهلاك الحبوب الجافة من حولها وتشتد أكثر من دون أن تنطفئ بشكل طبيعي.

عمليات الإطفاء
استخدام المياه لإخماد نيران مشتعلة في الصوامع، من دون التخلص من أكوام الحبوب سيؤدي وبشكل طبيعي إلى انطفاء النيران بشكل أولي. ومن بعدها تتحضر لجولة ثانية أكثر شدة بسبب تحفيز المياه المتسرّبة إلى قلب الأكوام لعملية كيميائية أخطر وأسرع وهي التخمّر. هذا التفاعل يُنتج الغاز الطبيعي القابل للاشتعال بشكل أسرع من الفحم.
حتى قطع الهواء بشكل كلي عن أكوام الحبوب باستخدام الأتربة لن يخدم عملية إطفاء النيران في المرفأ. هذه الطريقة ستوقف عملية «التفحيم» طبعاً، ولكن في المقابل ستطلق عمليات أشد خطورة وهي «التخمر اللاهوائي» للحبوب الذي ينتج الغاز الطبيعي المعروف بالـ»ميثان». بالتالي سنكون أمام تشكل جيوب غازية داخل الحبوب تنفجر كلّما ارتفع الضغط فيها إلى نقطة معيّنة وتعود للاشتعال مرة تلو الأخرى. أما الخطر الأكبر بهذه الطريقة فيكمن في زيادة تصدّع الإنشاءات المتضرّرة أصلاً من الانفجار الأول، وتصبح احتمالات وقوع انهيار غير مسيطر عليه أكبر.
علمياً، نحن أمام حلّ واحد وهو التخلص من كلّ الحبوب الموجودة بحسب الطرق الهندسية الممكنة، إما عبر سحبها، أو هدم الصوامع فوقها ومن ثمّ جرف الردم. والأمر يعود إلى المهندسين الذين يقدّرون المتاح والممكن.