يشهد لبنان موجة هجومية من المنظمات غير الحكومية على الدولة اللبنانية بحجة الفساد، مع تصوير هذه المنظمات المنضوية تحت ما بات يُسمى بـ«القطاع الثالث» بأنها «محلية» وتدافع عن مصالح المواطن اللبناني وحقوقه. إشكاليات استبدال دور الدولة بهذا القطاع متعدّدة الطبقات خصوصاً في ما يتعلق بالمنظمات ذات الارتباطات الدولية في الدول النامية.أولاً، هذا القطاع لا يتمتع بالشفافية تجاه «المستفيدين»، وهو معنيّ بإظهارها للمموّلين حصراً. ثانياً، أولويات هذا القطاع وأدبياته مستوردة ويتم إسقاطها على المجتمع المستهدَف من الخارج. ثالثاً، هذا القطاع يتملّص من الخضوع للقضاء والمحاسبة القانونية والخضوع للقوانين المحلية. كل هذه الإشكاليات تتعلق بالممارسة. لكن، إذا نظرنا إلى أدبيات من صاغ هذا المفهوم نجد أن إشكاليات هذا القطاع متأصّلة.
القطاع الأول هو القطاع العام والقطاع الثاني هو القطاع الخاص. أما «القطاع الثالث» فهو مفهوم ضبابي ومتنوّع بحسب الدول. والواقع أن هذا القطاع (منظمات أهلية ونقابية ودينية ونوادٍ ومنتديات على مختلف أشكالها وأهدافها) لطالما كان - نظرياً - موجوداً بشكل أو بآخر في مختلف المجتمعات حول العالم. إلا أنه اليوم يُراوح من قطاع يحثّ ويضغط على القطاع العام لتعديل سياساته في الدول الأسكندنافية، إلى قطاع يستبدل دور القطاع العام في بريطانيا، إلى قطاع نقابي وحزبي في دول كفرنسا وألمانيا، إلى قطاع ظهر ليخفّف من حدة الصدمة الاجتماعية لعصر ما بعد الصناعة في أميركا بحسب الباحثة كاثرين الكساندر. وبالفعل، تزامن صعود المفهوم مع صعود النظرية الجديدة في الإدارة العامة بداية الثمانينيات والتي تبنّت مبادئ السوق في إدارة موارد الدولة وواجباتها في أميركا. أما على الصعيد الدولي، فقد تزامن صعود هذا المفهوم مع وصفة إجماع واشنطن «Washington Consensus» ذات النقاط العشر لإعادة هيكلة الاقتصادات النامية، والتي فرضتها مؤسسات كصندوق النقد والبنك الدولي ودشّنت عهد العولمة النيوليبرالية.
أول من رفع لافتة «القطاع الثالث»، في نهاية سبعينيات القرن الماضي، هو أحد منظّري النظام العالمي الجديد وأحد منظّري السياسة الخارجية الأميركية أميتاي إيتزيوني، وهو صهيوني المولد وأميركي الجنسية، عمل في مؤسسات مثل معهد بروكينغز وجامعة هارفارد، وكان مستشاراً رئاسياً عندما صاغ هذا المفهوم (1979 - 1980). يرى إيتزيوني أن القطاع الثالث أكثر فعّالية لخاصيته الطوعية، إذ يشعر المنخرطون فيه بأنهم يصنعون القرارات بالتوافق. وتقوم نظريته على دعم هذا القطاع كأداة هيمنة أميركية، إذ يشدّد في كتابه «من الإمبراطورية إلى المجتمع» (2015) على ضرورة إنشاء حكم عالمي بقيادة أميركا، ونظراً إلى تعذّر إنشاء حكومة بالمفهوم التقليدي، فإن البديل هو إنشاء ثلاثة أجسام فائقة الدولية. الأول معنيّ بالأمن ويلعب دور شرطي العالم. الثاني معنيّ بالتهديدات النووية خصوصاً تلك المتعلقة بالدول «المارقة»، والثالث هو المجتمع المكوَّن من منظمات إنسانية وحقوقية. ويرى أن الأخير هو السبيل الوحيد لجلب العالم طواعية تحت جلباب «الأب الأميركي الفاضل» لأن الامتثال طواعية أكثر استدامة وفعّالية وأقل كلفة، أما الامتثال بالإكراه، برأيه، فغير ممكن. ورغم ذلك، وكونه ليس رجلاً حالماً أو داعية سلام، بل استراتيجي واقعي، فإنه يؤكد على ثنائية الطواعية - الإكراه لرفع فعالية السيطرة الأميركية في النظام العالمي الجديد.
أما في ما يخصّ منطقتنا المركزية في نظرياته، فيبدو وكأنه يغرّد خارج السرب، إذ يرى أن الاستدارة نحو الشرق التي انتهجتها الإدارة الأميركية منذ عام 2012 بهدف احتواء الصين خطأ استراتيجي، ليس فقط لأنها جعلت من الصين عدواً، بل لأن منطقة «الشرق الأوسط» لا تزال التهديد الاستراتيجي الذي لا يجب على الولايات المتحدة الأميركية الانسحاب منه، ولأن كل سيناريوهات الانسحاب تعني تدهور الأوضاع وتهديد المصالح الأميركية بشكل لا يمكن تحمّله.