المنظمات في كينيا فوق القانونفي العاصمة الكينية نيروبي، حيث تتركز أكبر «جالية» من عاملي المنظمات غير الحكومية الأجانب في شرق أفريقيا، أحياء متناثرة حصرية لهؤلاء هي أشبه بمنتجعات مرفّهة، فيما يعيش معظم الكينيين في ظروف معيشية تعيسة. ويحيط «المنقِذون» البيض أنفسهم بهالة من الخدم الكينيين ويشتكون من سوء خدمتهم. وقد تفاقمت هذه الظاهرة منذ أن أصبحت كينيا مركزاً للتحكم الأميركي في شرق أفريقيا، الى حد أثار حفيظة حكومة نيروبي ودفعها إلى سنّ قوانين لتنظيم عمل هذه المؤسسات والعاملين فيها، حتى لا تذهب الأموال التي تُجمع باسم الشعب الكيني لخدمة رفاهية أقلية من العاملين الأجانب.

من أجواء الانتخابات المحلية في كينياالأسبوع الفائت (أ ف ب)

تضمّنت هذه الإجراءات الحد من عدد العمال الأجانب، وخصوصاً في الوظائف التي يمكن للكينيين القيام بها، ومنع نقل أموال هذه المنظمات الى حسابات وملكيات خاصة، وغيرها من الإجراءات التي تبدو عقلانية ومنطقية لأي دولة ذات سيادة. إلا أن المشكلة هي أن المجلس المسؤول عن ملاحقة مخالفات المنظمات غير الحكومية يتلقّى رشى من هذه المنظمات التي لا تقبل المحاسبة والخضوع للقانون الكيني. وقد وصل الأمر بإحداها (منظمة «وي»/ نحن الكندية) الى الاستعانة بشركات أمنية إسرائيلية لخطف موظفين كينيين عملوا لديها سابقاً وتهديدهم وابتزازهم بعدما أبدوا استعداداً للتعاون مع سلطات بلادهم والإبلاغ عن ارتكابات المنظمة. وتظهر محادثة مسرّبة لمؤسس المنظمة ومديرها، مارك كيلبرغر، أنه على دراية بأن ارتكابات منظمته في كينيا كافية لإغلاق المنظمة إلى الأبد. وليست «وي» المنظمة الوحيدة التي «تحلّق» عالياً فوق الدولة والقانون في كينيا، ولم تكن فضيحة المنظمة لتخرج إلى العلن لولا تأليب الرأي العام الكندي ضدها أخيراً في صفقة توزيع مساعدات وبرنامج تطوعي في كندا. ولولا افتضاح عبثها فوق الأرض الكندية، لبقيت منظمة غير حكومية مرفوعة الرأس تتحدث بتعالٍ مع الحكومات الأفريقية الفاسدة التي عملت بنفسها على إفسادها.


... وفي هاييتي: نحن الدولة
عام 2010، هز هاييتي زلزال مدمر باغت قوته 7 درجات على مقياس ريختر. الحصيلة كانت مهولة، إذ قتل 200 ألف شخص، فهبّ العالم لمساعدة الجزيرة المنكوبة ورُصدت مليارات الدولارات لنجدتها. لكن أحداً لم يفكر بمحاسبة المسؤولين عن إيصال البنية التحتية والاجتماعية في هاييتي إلى مستوى من الهشاشة ضاعف عدد ضحايا الزلزال، بل على العكس من ذلك كوفئ هؤلاء، وشُكّلت لجنة من هذه المنظمات لإدارة المساعدات التي فاقت الـ 5 مليارات دولار. وإذا كان جرح هاييتي يحتمل المزيد من الملح، فقد تم رشّه مع تعيين الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون رئيساً للجنة.
قبل أكثر من مئة عام، احتلت أميركا الجزيرة وسرقت ذهبها وأجبرت برلمانها على تغيير الدستور في عدة مواضع بالتدريج. إلا أن أحد البنود كان صعباً حتى على برلمان مطواع ومتواطئ، وهو البند الذي يمثل روح ثورة هاييتي، ويمنع الرجل الأبيض من التملك في الجزيرة أو العمل فيها كسيّد مرة أخرى. لذلك، أرسلت البحرية الأميركية جنود المارينز لمحاصرة البرلمان وإجباره على تغيير هذا البند. ومنذ ذلك الحين، فرضت الولايات المتحدة رجالها على الجزيرة ليحكموها (أو بالأحرى ليدمّروها) بالحديد والنار، الى أن جاءت انتفاضة اجتماعية بالرئيس اليساري أريستيد الذي اختطف ومنع من العودة إلى الجزيرة إلا بعد الموافقة على تسليم زمام الحكم للمنظمات غير الحكومية.
ونشرت صحيفة «نيويورك تايمز»، الشهر الماضي، تحقيقاً موسعاً حول النهب والاستغلال الذي تعرضت له هاييتي على يد الأميركيين والفرنسيين ومسؤولية هؤلاء عن البؤس الذي وصلت إليه. وكشفت الصحيفة عن اعتراف يثبت الشكوك (البديهية) حول دور الأميركيين والفرنسيين في إقصاء الرئيس المنتخب أريستيد. واللافت أكثر في هذا السياق هو الدافع الرئيسي وراء الدور الفرنسي. فقد حشد أريستيد الرأي العام للمطالبة بتعويضات من فرنسا لقاء مئات ملايين الدولارات من الديون التي فرضتها بالقوة على الجزيرة المحررة، وأثقلتها بخدمة الدَّين لعدة أجيال، وكان ذلك من الأسباب الرئيسية وراء تحويل «درة الأنتيل» وأثرى المستعمرات في العالم إلى أفقر دولة في النصف الغربي من الكرة الأرضية.
إبان حكم كلينتون، عملت المنظمات على تفكيك القطاعات الزراعية والصناعية لمصلحة الاستثمارات الأميركية، وقمعت المطالبات العمالية، وعدّلت القوانين لتجريد الدولة من كل مصادر دخلها. وعندما وصل الاقتصاد الى الحضيض، سُحبت المساعدات الموجهة للدولة بدعوى الفساد، وفُتحت «حنفيات» التمويل على مصراعيها للمنظمات غير الحكومية. عام 1996 أعلن وزير الخارجية الأميركي أن القوات الأميركية ستنسحب من هذه الجزيرة الاستراتيجية لأن وكالة التنمية الأميركية (USAID) تسيطر على الوضع هناك بالشراكة مع القطاع الخاص، ويضمنان الحفاظ على المصالح الأميركية.
جاء زلزال 2010 ليفضح «الحكم الرشيد» لهذه المنظمات التي حازت جائزة كبرى


جاء زلزال 2010 ليفضح «الحكم الرشيد» لهذه المنظمات. ولكن بدلاً من المحاسبة، حازت المنظمات جائزة كبرى، وباتت سطوتها أكبر وأقصت أيّ ممثل عن الهاييتيين وحكومتهم. وبفضل جهود هذه المنظمات، تبخرت أموال المساعدات من دون حساب. «ميرسي كوربس»، مثلاً، المنظمة المعنية بقطاع المياه والصرف الصحي وتبلغ ميزانيتها عشرات ملايين الدولارات، لم تؤمن لا مياه الشرب ولا البنية التحتية للصرف الصحي. تبخّر المال في وقت كان فيه الهاييتيون في أمسّ الحاجة إلى الماء النظيف لمحاربة وباء الكوليرا الذي اجتاح الجزيرة بفضل قوات الأمم المتحدة. هذه المنظمات لا تستجيب للمساءلة إلا من قبل المموّلين، وطالما أن هؤلاء راضون، فليس مهماً رضى الضحايا أو حتى موتهم.
تكثر الشهادات حول أسلوب الحياة المرفّه للعاملين في هذه المنظمات في هاييتي، بينما الضحايا الذين جمعت المليارات لهم يعانون الأمرّين بين التشرد والكوليرا والمجاعة. ولم يتوقف عاملو هذه المنظمات عن الاعتداء الجنسي في غياب أي رقابة، ولم تحرج فضائح تبادل رجال قوات الأمم المتحدة الغذاء مقابل الجنس في بلد يمنع ممارسة الدعارة، بل استمرت في قمع الهاييتيين واعتقالهم بالنيابة عن المجتمع الدولي لـ 15 عاماً، هذه القوات والمنظمات التي دخلت هاييتي تحت البند السابع لم تغادرها إلا وهي ترزح تحت حكم عصابات المخدرات التي تمكنت من الجزيرة بفضل هذه المنظمات.

... وفي جنوب السودان: نحن اللادولة
إذا كان هناك ما هو أبشع من أمراء الحرب الذين يغتنون من القتل والنهب والتهجير، بدم بارد، فهم المديرون التنفيذيون للمنظمات. هؤلاء لا يرتدون بدلات دائماً. في أحيان كثيرة، تراهم بالـ«تي شيرت»، يوزّعون المعونات، ويوثّقون الانتهاكات ويحرّكون الرأي العام. من بين هؤلاء جون براندرغاست، موظف الأمن القومي الأميركي السابق ومؤسس عدد من المنظمات غير الحكومية العاملة في السودان، وتحديداً في دارفور وجنوب السودان، علماً بأنه حتى بعد خروجه من القطاع العام الى غير الحكومي، لم ينقطع «حبله السري» مع مديرته القديمة سوزان رايس التي أدارت وتدير السياسة الأميركية تجاه السودان.
الحكاية قديمة ومعقدة. ولكن يمكن البدء من دارفور عام 2005، عندما توصلت الحكومة السودانية إلى حل سياسي مع الحركتين الانفصاليتين في دارفور أنهت الحرب الطاحنة في إقليم توازي مساحته مساحة العراق (المحتل من الأميركيين حينها). لكن، فجأة ومن دون سابق إنذار، تشرذمت المعارضة وانشقّ كل فصيل الى فصائل وتغيّرت المطالب لتصبح تعجيزية. وفجأة، أيضاً، خُلق «تحالف أنقذوا دارفور»، وبدأ حملة إعلامية ضخمة ومكلفة في الإعلام الأميركي تنديداً بالإبادة التي يقوم بها النظام السوداني في دارفور، واستُبدلت قوات الاتحاد الأفريقي التي نجحت سابقاً في إنهاء الصراع (الذي نتج بسبب الجفاف وتغير مواسم الترحال بين القبائل) بقوات الأمم المتحدة المتواطئة مع الأميركيين. وبدأ شلال من الدماء مع تجدد الصراع والمآسي الإنسانية، افتعله الثوار الذين يدّعي الأميركيون أن على العالم إنقاذهم. في شهادة له أمام الكونغرس، أكّد المبعوث الأميركي الخاص السابق إلى السودان أندروز ناستيوس غير مرة، أن الجرائم، من القتل الى الاغتصاب والتهجير، هي بيد الثوار، ما أثار غضب مدير الجلسة السيناتور (في ذلك الحين) جو بايدن، فوبّخه وحثّه على التوقف عن تكرار هذه الأقوال حتى إن كانت حقيقية لأنها «لا تساعد».

تولّت المنظمات غير الحكومية إدارة الحرب الأهلية بعد انفصال الجنوب


كان الديموقراطيون بحاجة إلى ذلك، فدارفور كانت «عراقهم» (سبب حيوي لاستهداف السودان هو النفط ومصالح الكيان الصهيوني)، وهم كانوا يضغطون على إدارة بوش للتدخل عسكرياً في دارفور. كذلك الأمر بالنسبة إلى جنوب السودان، فقد تولّت المنظمات غير الحكومية، وخصوصاً تلك المرتبطة بجون براندرغاست، إدارة الحرب الأهلية حتى بعد انفصال الجنوب، وغطّت على مجازر سيلفا كير، أول رئيس لجنوب السودان، ضد خصومه الجنوب سودانيين عندما كان الأمر في مصلحتهم. التواطؤ في تغطية هذه المجازر شمل الأمم المتحدة التي كانت رئيسة بعثتها النروجية الجنسية مقرّبة من كير وغطت أولى جرائمه واعترفت بأنها لم ترد أن تعدّ الضحايا بقرار سياسي. وحتى اليوم، تستمر الفوضى والصراعات في دارفور وجنوب السودان بوتيرة غير مفهومة للمراقب عن بعد، ولكن لمراقبين مثل محمود مامداني وجون يونغ المتابعين لهذه المنظمات، يبدو أن هذه المنظمات الإنسانية هي التي تضبط إيقاع المجازر والتهجير وتضمن استدامة البؤس في البلد الذي كان أكبر دول أفريقيا.