برزت في الأشهر الأخيرة ظاهرة لم تشهدها إدارات الدولة سابقاً: تسوّل الدولار من مموّلين دوليين أو محليين، وتوزيع «المحصول» على الموظفين. بعض الموظفين المحظيين الذين يدينون بولائهم لقوى السلطة يحصلون على «تقديمات» شهرية بالدولار أكثر من غيرهم، وبعضهم لا يحصلون إلا على الفتات، فيما آخرون محرومون بشكل كامل. في المحصّلة يبدو أن قوى السلطة تستثمر في الانهيار من خلال شراء ولاءات الموظفين الذين تحتاجهم لغاياتها الضيّقة والواسعة، فيما تترك الآخرين مضربين عن العمل طمعاً بحقّ تصحيح أجورهم.وتؤكد مصادر مطلعة أن بعض الموظفين المحظيين في ثلاث وزارات يتقاضون رواتبهم بالدولار الفريش من التمويل الذي يتسوّله الوزراء من سفاراتٍ ومؤسسات دولية ويعيدون توزيعها، بعدما اعتادوا توزيع المال العام، وإن كانت الفوضى تتحكّم اليوم بعملية التوزيع في ظل الانهيار. فيما طمأن الوزراء الذين لم يحالفهم الحظ موظفيهم بأن التواصل مع مصادر التمويل المحتملة لم يتوقّف. رغم ذلك، يمارس الوزراء التقيّة في التعامل مع مطالب إضراب القطاع العام المحقّة طالما أن «البوطة» المدينة بولائها لهم ما زالت تحت السيطرة.
يجري هذا الأمر بشكل علني في وزارات التربية والزراعة والخارجية، وربما في وزارات ومؤسسات عامة أخرى. هي عبارة عن حفلة شراء الولاءات بتوزيع الدولارات المموّلة دولياً على العاملين في القطاع العام. بدأ الأمر منذ نحو سنة. ففي مرحلة ما، أيقنت قوى السلطة أنه يتوجب عليها استدراك مخاطر الأزمة وتبعاتها على شبكة علاقاتها بالقطاع العام، ولا سيما أن هذه الفئة هي الأكثر تضرراً من الأزمة، والأكثر التصاقاً بقوى السلطة وإخلاصاً لها. بهذه الخلفية جرى اقتراح مسألة «المساعدة الاجتماعية» من دون أن تذهب قوى السلطة نحو تصحيح عادل للأجور وإعادة النظر بالتقديمات وبنظام الحماية الاجتماعية القائم. بل اختارت آليات الزبائنية التي اعتادت على ممارستها في العقود الماضية، بهدف تقديم دعم لموظّفين محدّدين. وفي سبيل ذلك لم يوفّر بعض الوزراء مؤسّسة دولية، أو سفارة، أو جهة مانحة، إلا قصدوها لمدّهم بتمويل خارجي بالعملات الأجنبية. وجرى توزيع هذه الدولارات الآتية من الخارج على الموظفين بنسبٍ متفاوتة تبعاً لمعايير يحدّدها الوزير أو المستشارون والمدراء العامون.
من باب النازحين السوريين وما خلقه من دور لوزارة التربية في البرامج الدراسية الخاصة بالنازحين، استطاع وزير التربية عباس الحلبي تأمين تمويل بالدولار الفريش. ووفق مصادر مطّلعة، تخطّت رواتب بعض المتعاقدين في وزارة التربية ثلاثة آلاف دولار، نصفها بالدولار الفريش والنصف الآخر وفق سعر منصة «صيرفة». فيما حصلت بقية العاملين في الوزارة والأساتذة على الفتات من خلال توزيعات نقدية شهرية بقيمة 90 دولاراً. ويتردّد أن بعض الإداريين في مديرية التربية والتعليم المهني لم يحصلوا على أي شيء نهائياً. لا غرابة في أن يكون الأمر كذلك، ليس لأن هذه الإدارة محسوبة بقيادتها على هذه الجهة أو تلك، لأن شبكة قوى السلطة في إدارة القطاع العام تعمل بهذه الطريقة إنما بات يظهر منها اليوم علنية في الفوضى وانتشار أفقي لها يعمل من أجل تشريع ما كان حراماً أو غير قانوني في السابق.
وما يحصل في وزارة التربية، حصل أيضاً في وزارة الزراعة، إذ استفاد بعض العاملين في برنامج محدّد من رواتب بالدولار حُرم منها زملاؤهم. وفي وزارة الصناعة وصلت الدولارات إلى فئة من الموظفين بتمويل من غرفة التجارة والصناعة وجمعية الصناعيين أكثر من مرّة.
هكذا، بات العاملون في القطاع العام موظفين لدى القطاع الخاص ويتقاضون رشوة مقنّعة بحجّة تسهيل الأعمال رغم أن جوهر وجود القطاع العام هو أنه لا يمكن أن يكون مموّلاً مباشرة من الجهات التي يفترض به مراقبتها ومنعها من التهرّب من مشاركة أرباحها مع المجتمع. الضريبة موجودة لهذا السبب، لا أن يقوم القطاع العام بالمساعدة على تحقيق أرباح احتكارية لا تتم مشاركتها في المجتمع.
أسلوب «الشحادة» بات هو المعتمد، والنماذج تبدأ من الجامعة اللبنانية وتمر بالأسلاك العسكرية التي تعيش على الهبات وصولاً إلى الوزارات والإدارات العامة، ومن لم تأته الفرصة المناسبة من الوزراء، يراهن على أن يحالفه الحظ مرة أخرى، كوزير المال يوسف خليل الذي أبلغ موظفيه أنه أجرى اتصالاتٍ مع عددٍ من المؤسسات والسفارات في مسعى لتحسين أوضاعهم لكن أحداً لم يتجاوب.
لم يكن هذا البازار علنياً بهذا الشكل في أي يوم منذ نهاية الحرب الأهلية وربما خلال الحرب. إنما أصبح اليوم فجاً ووقحاً فيما يشارف الأسبوع السادس من إضراب موظفي الإدارة العامة على نهايته من دون تحقيق المطلب الوحيد الذي يرفعه هؤلاء، أي تصحيح قدراتهم الشرائية، وإعادة النظر في بعض التقديمات الاستشفائية والتعليمية لعائلاتهم. وذلك يعني أن قوى السلطة تتمسك حتى الرمق الأخير بجيشها داخل المؤسّسات لا بالمؤسّسات نفسها، وإن أدى الاستمرار بهذا النهج إلى الإطاحة بما تبقى من قطاع عام. هو النهج عينه الذي جعل القطاع العام متخماً بالتوظيف السياسي. في المقابل سيدين هؤلاء لزعمائهم وأحزابهم. وسيجددون شرعيتهم في صناديق الانتخاب كما حصل في أيار الماضي، وسيمثلون صوتهم في النقابات والهيئات، ولا يخرجون عن طوعهم، ضاربين أي محاولة حقيقية للتصحيح.
قوى السلطة تدرك ما يحصل وتتعامل مع الأمر باعتباره فرصة لتثبيت تجذّرها في مفاصل الدولة والمؤسسات. وهذا ما يساعدها على تمرير ما تريده من قوانين تفرض ضرائب ورسوماً جديدة كالدولار الجمركي بذريعة تمويل زيادة أجور العاملين في القطاع العام.