يعمل سعيد أنيس، المعروف بأبي عبيدة، في المعمل منذ سنوات متخصصاً في أعمال الفرز. إلا أن المشكلات الإدارية الكثيرة التي يواجهها المعمل، ومنها توقفه عن أعمال الفرز والمعالجة، وتسريح عدد من العمال، دفعت الإدارة إلى تكليفه وثلاثة من زملائه بمهمة تنظيف أحد المفاعلَيْن المخصّصَيْن لتخمير النفايات. وهي «عملية معقدة تحتاج إلى معدات خاصة ولا تتم يدوياً، لأن المفاعل يحتوي على مواد مترقدة عبارة عن خليط زجاج ورمول وبحص تستخدم لفلترة العصارة، وتنبعث منه غازات سامة بفعل التخمير» بحسب عمّال متمرّسين في المعمل.عمِل أنيس في المفاعل الضخم، الذي يتسّع لـ 39000 متر مكعب، أول من أمس. وعندما بدأ بمتابعة عمله أمس زُلّت قدمه فسقط على رأسه واصطدم بقسطل حديدي في جوف المفاعل، قبل أن تنهار فوقه أكوام النفايات الجافة وكميات الرمول والزجاج والبحص وتطمره بالكامل. هرع زملاؤه إلى إنقاذه لكن إخراجه من تحت الردم استغرق وقتاً، فتمّ نقله للمستشفى مفارقاً الحياة.

احتجّ العمّال حزناً على وفاة زميلهم (علي حشيشو)


احتجاج العمّال
احتجّ العمال أمام مدخل المعمل لبعض الوقت استنكاراً لتقصير الإدارة، وحمّلوها مسؤولية وفاة العامل. يقول أحد زملائه «على من يدخل المفاعل ارتداء بدلة خاصة، وفوقها قناع مزوّد بحجرة أوكسجين، بالإضافة إلى جزمة خاصة تصل إلى الخصر»، مؤكداً أن أياً من هذه المعدات لم تكن متوافرة للعمال الأربعة الذين أوكلت إليهم مهمة تنظيف المفاعل، «الذين يدخلون إلى المفاعل من شباك ضيق جداً، ما إن يتخطوه حتى يصبحوا خارجين عن السمع معزولين عن العالم».
عندما انتشل العمال زميلهم أبو عبيدة من تحت الردم لم يكن في كلّ المعمل عيادة أو ممرض أو حتى حبة بنادول، بخلاف ما كان عليه الأمر في السابق. فقد كانت هناك عيادة تضمّ آلة أوكسجين وماكينات للضغط والسكري وبخاخات لضيق التنفس وقطّارات للعيون، يديرها ممرّض، لكنها تحوّلت إلى غرفة خاوية منذ شهور. حتى مكان راحة العمال وأماكن تناول طعامهم، وكذلك الحمامات، تحوّلت إلى «خربة» تفتقد النظافة ومياه الاستخدام والإنارة، فصار العمّال مجبرين على تناول طعامهم الذي يحضرونه معهم من البيوت وسط جبال النفايات المنتشرة في كل اتجاه.

غياب الوقاية
الحادثة تفتح سجّل ظروف عمل صعبة، يعبّر عنها عدد من العمّال متحفظين عن ذكر أسمائهم. يقول ع.: «نعمل في أصعب مهنة وأقرفها، بين النفايات على أنواعها، نحن نتنشق السموم والغازات من دون أي وقاية، بينما يفترض تزويدنا بكمامات خاصة وواق للعيون ومشروبات ضد التسمّم ومنها الحليب، إلى جانب اللباس الخاص والجزمات المخصصة لتجنب الغوص بالعصارات الملوثة». ويشكو عامل آخر «الظلم والاستغلال، والأصعب أنك مضطر للتسليم بهذا الذل، من أجل توفير لقمة العيش. ربما يكون الموت أفضل من هذا الوضع، ولعل أبو عبيدة استراح من الإذلال الذي نتعرض له هنا».
ظروف العمل السيئة والخطيرة، إلى جانب تداعيات الانهيار الاقتصادي، قلّصت عدد العمّال من 450 إلى 170، يعملون لقاء 140 ألف ليرة كأجرٍ يومي، وبدوام عمل 8 ساعات يومياً وبمناوبات نهارية وليلية. وكانت علاقة العمال بالإدارة ساءت إثر تأخر دفع الرواتب لأشهر خلت ما دفع بالأخيرة إلى إصدار قرار بمنع دخول أي عامل إلى قسم الإدارة للمطالبة براتبه أو بزيادة على أجره.

ردّ فعل الشركة
يقول شقيق زوجة أنيس إن قريبه في العقد الخامس، متزوج وله ستة أطفال أصغرهم في السادسة من عمره، لافتاً إلى أن أحداً من إدارة الشركة لم يتصل بهم حتى مساء أمس «عرفنا من زميله أنه كان داخل خزان ضخم عندما وقع عليه جبل من التراب وقسطل، وأخبرنا أنهم نقلوه إلى المستشفى، والعوض بسلامتكم».
ظروف العمل السيئة قلّصت عدد العمّال من 450 إلى 170


تعود ملكية المعمل إلى شركة IBC، ومعظم مساهميها الكبار سعوديون، أما إدارته المحلية فبرئاسة أحمد السيد وقد اعتبرت الحادث كطارئ عمل وسجّلته قضاء وقدر. وقد أصدرت الشركة بياناً مقتضباً أوضحت فيه أنه «أثناء قيام العامل أنيس بتنظيف خزان التخمير digestor 2 انهارت الأتربة عليه، ولما حاول الابتعاد تعثر ووقع على الأرض ما أدى إلى ارتطام وجهه بقسطل حديد وانهيار جزء من التراب عليه، فسارع زملاؤه إلى رفع التراب عنه وتم نقله على وجه السرعة إلى مستشفى حمود الجامعي ولكنه كان قد فارق الحياة فوراً».
استهتار إدارة IBC بالسلامة العامة يدلّك إليه تكوّم نحو 40 عبوة فارغة لإطفاء الحريق يدوياً في غرفة الحرس، لم تقم الإدارة بإعادة تعبئتها منذ خمسة أشهر، في حين أن المعمل معرض لاندلاع الحرائق بسبب انبعاثات غاز الميتان السريع الاشتعال أو بسبب موجات الحر الشديدة.
يذكر أن حادث وفاة سعيد أنيس ليس الأول من نوعه، فقد سبقته وفاة عامل بسكتة قلبية عند بوابة المعمل لحظة انتهاء دوام العمل، وموت عامل آخر في منزله بعد يوم عمل أمضاه في رفع النفايات بواسطة جرافة، عدا عن حادث دهس بمعدّات ثقيلة في حرم المعمل راح ضحيته أحد العمال، بالإضافة إلى بتر يد عامل آخر بعدما «ابتلعتها» إحدى الآلات أثناء تنظيفها.