في حزيران 2021 أصدر البنك الدولي نشرة المرصد الدورية عن لبنان بعنوان «لبنان يغرق». في هذه النشرة، جرى توصيف الدور الذي يقوم به حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بعبارة واحدة: «الصانع الحصري للسياسات». وبنتيجة هذه السياسات، كانت الحصيلة في حينه: «واحد من بين كل خمسة عمال فقد وظيفته»، «41% من العائلات لديها صعوبات في الوصول إلى الطعام والأساسيات الأخرى»، «36% من الأسر لديها صعوبات في الوصول إلى الرعاية الطبية»... اللائحة طويلة، لكن النشرة انتهت إلى القول بأن لبنان يغرق نحو أسوأ ثلاث أزمات شهدها العالم منذ القرن التاسع عشر، مرجّحة أن يصبح الأثر الاجتماعي للأزمة مأسوياً بسرعة، لأن الاضطرابات المالية والنقدية تقود ظروف الأزمة بشكل ملموس من خلال التفاعل بين سعر الصرف والتضخّم والكتلة النقدية بمعناها الضيّق.
(مروان بوحيدر)

ما قاله البنك الدولي، بدأ يحصل بالفعل. عملية إطفاء الخسائر التي يقودها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، من خلال السياسات النقدية التي تقضي بتغطية الخسائر في القطاع المالي من خلال خلق النقد وضخّه في السوق، فتحت الباب أمام موجات التضخّم المتواصلة. فالنتائج الاجتماعية والاقتصادية تصبح أكثر حدّة يوماً بعد يوم. أما المشكلة فهي ما زالت على حالها، أي في «الصانع الحصري للسياسات». فهذا الصانع قرّر أن يقفز فوق الآلية التقليدية لتصحيح الأجور التي تبدأ بعملية مطالبة تقودها النقابات العمالية في القطاع العام، ثم تنتهي بقرار في الحكومة يتعلق بدراسة النفقات والإيرادات، وصولاً إلى إقرار المشروع في مجلس النواب بقانون يمكن أن يكون إلى جانبه قوانين أخرى متّصلة بالجباية والإنفاق أيضاً. وآلية التصحيح التي اعتمدها سلامة تطبّق سعر الصرف كوسيلة لزيادة الراتب، ما يعني مفاعيل تضخمية حكمية، خلافاً لما يمكن أن تكون عليه الأمور ضمن الآلية التقليدية.

38904 مليارات ليرة

هي قيمة النقد في التداول في نهاية حزيران 2022 مقارنة مع 5960 مليار ليرة في نهاية حزيران 2019، أي بزيادة نسبتها 552%


قرار سلامة منح القضاة زيادة على أجورهم بمعدل يفوق خمسة أضعاف قيمتها الأصلية استناداً إلى آلية تعتمد على واحد من أسعار صرف الدولار المتعدّدة التي خلقها خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ سيتم تخصيص القضاة بحصّة من طباعة الأموال من خلال ما يمكن تسميته «دولار القضاء». وهذا القرار لم يناقش على أي صعيد، سوى بين أطراف الصفقة المعنيين، علماً بأن الحكومة سبق أن رفضت، بحجّة التضخّم، طلب رابطة موظفي القطاع العام تصحيح أجور العاملين في القطاع العام وفق آلية تعتمد سعر الصرف كوسيلة لاحتساب الراتب. المفارقة أن سلامة سيخلق هذه المرّة، التضخّم من أجل إحكام سيطرته على القضاء.
كالعادة، يستخدم سلامة السياسة النقدية لتوزيع «الرشى». هي الأداة الملائمة لقوى السلطة، لتعويض الفئات التي تحتاج إليها في معركة الاستيلاء على الأملاك العامة. فهناك آلاف الدعاوى النائمة في القضاء ضدّ المصارف. كما يفترض أن يكون القضاء مساراً إلزامياً لمحاسبة كل من يثبت تورّطه بنتيجة التحقيق الجنائي. لذا، فإن القرار باستعمال السياسة النقدية ضمن عملية تعويض خسائر بعض الفئات، هو أمر خطير. ووفقاً لرئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق عبد الحليم فضل الله، فإن «القطاع العام بأمسّ الحاجة الى تصحيح رواتب لأنها دون الحدّ الأدنى لتسيير الحدّ الأدنى من الأمور الإدارية، وهو ما كان يجب أن يحصل منذ أيام حكومة حسان دياب، إنما ضمن مقاربة عامة وشاملة وعبر وضع سياسة مدروسة تأخذ بالحسبان كل العناصر الأساسية، ومنها الموازنة العامة». لكنّ قراراً كهذا يفترض أن «تأخذه السلطة المالية، وليس السلطة النقدية. دور السلطة المالية هو معالجة تأثير هذه الزيادة على العجز في الموازنة، وعليها أيضاً يقع البحث في مصلحة كل القطاعات وبحجم الإيرادات لتغطية هذه الزيادات». ويرى فضل الله أن الإشكالية الأساس في خطوة سلامة هي في اعتماد الدولرة كأداة في احتساب الزيادة. وفي وقت يفترض فيه توحيد سعر الصرف، يضاف سعر صرف جديد له علاقة بالرواتب والدفع باتجاه تعدّد أسعار الصرف داخل القطاع العام من دون توضيح آلية الاحتساب. والإشكالية الأخرى تتمحور حول «دولرة كل نفقات الدولة وإيراداتها بمعزل عن تلك التي تدفع أصلاً بالعملة الأجنبية، الأمر الذي سيخلق أعباء ضريبية عشوائية». عملياً، الدولرة قد تنتقل إلى كل فئات الضرائب والرسوم التي تجبيها الدولة. هذه المرّة الدولرة بمعناها النقدي، أي وفق سعر صرف السوق، وليس بمعناها السابق وفق أسعار صرف الوديعة.

قرار بمثابة حماية استباقية للمصارف عبر جذب القضاة إلى ضفّتهم


لم يقف حاكم مصرف لبنان عند الاستنسابية بين فئة وأخرى، إنما زرع الشقاق ضمن الفئة نفسها عبر حرمان القضاة المتقاعدين من الاستفادة من الزيادة. وهو ما يعزّز نظرية «الرشوة». ويقول رئيس الجمعية اللبنانية لحقوق المكلفين المحامي كريم ضاهر، إن «إعطاء مصرف لبنان والمصارف صلاحية التحكّم بالرواتب والتمييز بين الموظفين، يدفع المستفيدين باتجاه الولاء لهؤلاء». قد يكون الأمر بمثابة «حماية استباقية للمصارف عبر جذب القضاة إلى ضفّتهم تحسّباً من أيّ حكم أو قرار قضائي مستقبلاً كتطبيق القانون 2/67 الذي يلزم المصارف بالتوقف عن الدفع إلى حين تغيير مجالس الإدارة بالتوازي مع تنحية وعزل رؤساء وأعضاء مجالس الإدارة ومفوّضي المراقبة للتحقيق معهم». من ناحية أخرى، يصعب تصنيف هذا الإجراء إلا ضمن الحلّ المجتزأ لمشكلة فئة من الموظفين العامين ولو أن حقوقهم مشروعة وضرورية. فأيّ زيادة، وفقاً لضاهر «تتطلّب تأمين إيرادات موازية لها حتى لا يؤمّن الفارق عن طريق الضرائب. لكن ما يحصل اليوم هو المزيد من الهروب إلى الأمام، سواء لجهة إعادة إطلاق الاقتصاد وتحقيق نموّ، أو لجهة الابتعاد عن شروط صندوق النقد». ما سبق يصبّ في خانة واحدة هي تخاذل الدولة تجاه موظفيها ومؤسّساتها ومواطنيها، عبر تنصيب رياض سلامة حاكماً بأمر المال العام، وهو الملاحق في الداخل والخارج بقضايا اختلاس وتبييض أموال.